فجأةً، تداولت الأخبار العاجلة على القنوات التلفزيونية حول هجوم شنته عناصر تابعة للأمن العام بمشاركة عشائر البدو على محافظة السويداء، واندلاع اشتباكات عنيفة بينهم وبين قوات الفصائل الدرزية في13-7-2025.
لم تمر سوى ساعات قليلة حتى غدت المدينة وأريافها مُثقَلة بضجيج العويل على الموتى، والجثث المرمية هنا وهناك؛ وصراخ الاستغاثة يرتفع من كل صوب. مجازر، ونهب للبيوت وحرقها، كأنما الجميع سقط في لهيب جهنم. لا مَنجى من القذائف المتساقطة من الأعالي، ولا مَهرب على الأرض من فوهات أسلحتهم الموجهة على الجميع؛ موت قادم من كل الجهات.
ساعات معدودة تحولت بعدها السويداء إلى مدينة يسكنها صمتٌ مُفزع. فرَّ غالبية المدنيين بعد اقتحام الفصائل التابعة للأمن العام وعشائر البدو للمدينة، وسكن معظم القرى هدوءُ الوَجَع وترقُّب الأسوأ، بعد أن ثبّتت الفصائل التابعة للأمن العام نقاطها العسكرية على دوار تشرين.
مجازر، ونهب للبيوت وحرقها، كأنما الجميع سقط في لهيب جهنم
يراقب مجد سلام (30 عاماً)، وهو شاهد عيان من السويداء على الأحداث الدامية، تفاصيل ما يحصل من شقوق شباكه في الطوابق العلوية. شاء القدر أن ينجو من هجوم المسلحين. يتحدث ودموعه تقطع حديثه بين الحين والآخر: “يحزنني أن جيراننا البدو أصبحوا خلايا نائمة وساندوا الشيشان والأُيغور لنهب بيوتنا وقتلنا. كنت أرى جرائمهم بعيني. البدو الذين كنا نأكل ونشرب سوياً. النظام استغلهم وشوَّه الذكريات بيننا، شوَّه روح الإخوة التي كانت تجمعنا”.
الهروب من هاوية الموت
مشكلة انقطاع التيار الكهربائي أثرت سلباً على تناقل الأخبار بين الأهالي عن الهجوم، وعجز الكثير منهم عن الهروب من لهيب النيران الذي أحاط بهم. طلبت الفصائل التابعة للحكومة الانتقالية من المدنيين الالتزام بالبقاء في البيوت وإجبارهم على تسليم الأسلحة.
يوضح مجد: “اضطر المئات من المدنيين إلى شراء الأسلحة وتسليمها للأمن العام بأسعار باهظة الثمن لعدم حوزتهم لها، وذلك حفاظاً على حياتهم من شَرِّهم. حصل عليها المدنيون عبر طرق التهريب على الحدود اللبنانية بواسطة مهرِّبين”.
يضيف مجد بحُرقة: “تسليم الأسلحة لم يمنع فواجع الانتهاكات والجرائم، فقد سقطوا في فخ عنفهم، فخ أوقع عشرات المدنيين في شِراكهم؛ شِراك رصاصاتهم القاتلة، وشِراك الإعدامات الميدانية كما السعير”.
لم تَسلم المزارات الدينية من التدمير،
والهروب لم يُنقِذ المدنيين من الموت، كالذي يسقط في هاوية الردى واحداً تلو الآخر
وبينما الرعب يرسم ملامحه كأن الحدث أمامه: “شاهدت شيخاً كان يهرب، قتلوه برصاصة في رأسه. وشاهدت امرأة تهرب بسيارتها، أوقفوها وقتلوا ابنها أمام عينها. يا إلهي! كم هو صعب! المرأة في تلك اللحظة نسيت ابنها المقتول، وبدأت تتراجاهم ألا يقتلوا أولادها الآخرين. ما تخيلت في حياتي أن السويداء تتشوه. بلدنا بلد حب. يا حيف! يا حيف على كل شيء”.
فشل الهدنة والخبز المُحرَّم
لم تتوقف الهجمات على المدنيين على الرغم من عدة اتفاقيات هدنة وفض اشتباك بين عشائر البدو والفصائل التابعة للحكومة الانتقالية وفصائل الدروز، وافتتاح معابر إنسانية بين محافظتي درعا والسويداء لتأمين خروج المدنيين الجرحى وإدخال المساعدات. بل اختنقت المحافظة بحصار حاد مُنِع فيه إدخال الطحين. حكومة سوريا تمنع الخبز عن أبنائها، كما لو أنه خبز مُحرَّم.
لم تَسلم المزارات الدينية من التدمير، والهروب لم يُنقِذ المدنيين من الموت، كالذي يسقط في هاوية الردى واحداً تلو الآخر، أو كالذي يهرب إلى ممرات الموت نفسه دون أن يدري.
يردف مجد حديثه بحرقة جعلت جمله متقطعة بين الحين والآخر: “قوَّصوا بسلاح BKC شاباً كان يهرب، لمجرد أنه كان يهرب. قتلوا المواطن الأمريكي حسام سرايا وكريم سرايا وتقريباً ثمانية من عائلته. أعدموا على دوار تشرين إعداماً ميدانياً. نحن نموت بلا سبب! أو لأننا دروز. الطائفية التي تمارسها حكومة دمشق أسوأ من طائفية نظام بشار الأسد المخلوع. كلاهما أسوأ من بعض. النتيجة المشتركة بينهما هي أن الضحايا ظلت على حالها”.
ساحة الكرامة: نبض الحب
يروي مجد بألم عن ذاكرة المظاهرات المنددة بنظام بشار الأسد المخلوع خلال سنوات حكمه في ساحة الكرامة، والشعارات التي كانت تدعو إلى الوحدة الوطنية بين الدروز والمسيحيين والبدو والسنّة، شعارات كانت تنبض بروح واحدة ضد ظلم الديكتاتورية. يتكلم بحزن:
“الحكومة الجديدة أحدثت شرخاً كبيراً بين الأطياف. صرنا نخاف من البدوي الذي حمل السلاح ضدنا، والسُنّي الذي تربَّينا سوياً معه. صوت رصاصة التطرُّف في رؤوسنا، ورائحة دم الطائفية تنبعث من الجثث المرمية في شوارعنا. كنت متخفياً بضعة أيام في الكنيسة، وأرى الفظائع وأموت في كل لحظة، لكن سيأتي يوم وننبض بقلب واحد”.
يتحدث مجد، والوجع يرسم ملامح جديدة على وجهه في كل حديث، بأن الوجع الأعظم هو أن بعضاً من عناصر الفصائل المهاجمة هم أنفسهم من حملوا شعارات الإخوَّة والسلام في ساحة الكرامة. هي شعاراتهم ذاتها، لكنهم اليوم حاربوها وصارت ضدهم ولا تناسب مصالحهم مع الحكومة الجديدة. ويختم حديثه: “صرت أتمنى أن أموت دون أن أتعذَّب. الذي يُحزُّ في قلبي أن الذين يقتلوننا هم من محافظاتنا. هؤلاء الذين كنت أرى في عيونهم بريق الحرية وبريق الحب”.










