لا يولد الانهيار الاجتماعي بصوتٍ عالٍ، بل يبدأ همسًا. لا ينهار وطنٌ حين تُقصف مدنه فحسب، بل حين تتآكل ثقة الناس ببعضهم، وحين تُصبح الكلمة سلاحًا، والجملة خندقًا، واللغة جدارًا يفصل بدل أن يَصِل. فالكراهية لا تهبط من السماء على هيئة عاصفة مفاجئة، بل تتسلل ببطء، وتنمو كشجرة سامة من بذرة صغيرة تُزرع في أرضٍ نفسيةٍ هشة، ثم تُسقى بالحديث اليومي وتُربّى بالتكرار حتى تمدّ جذورها في عمق المجتمع.
إنّها عملية بناء عكسي، تتحوّل فيها اللغة من وسيلة للتفاهم إلى وسيلة للعنف، ومن أداة وعي إلى أداة اصطفاف. وهنا تكمن خطورة خطاب الكراهية لأنه لا يحتاج إلى دبابةٍ ليُخيف، ولا إلى قانونٍ ليقمع؛ بل يكفيه أن يسري بين الناس على شكل رأي، أو نكتة، أو تعليق، أو منشور، ليُعيد تشكيل صورة الآخر داخل المخيال الجمعي. حينها يصبح المختلف تهديدًا، والمغاير خطرًا، والتنوّع لعنة بدل أن يكون مصدر قوّة.
في مجتمعات كـ سوريا ولبنان، حيث تشكّل التعدّدية المذهبية والطائفية والسياسية جزءًا من تكوين الهوية الوطنية، فإنّ التعايش ليس خيارًا تجميليًا بل ضرورة وجودية. فالاستقرار لا يُبنى على التشابه، بل على الاعتراف بالاختلاف. وهنا يبدأ عمل خطاب الكراهية في نخر الأساس؛ إذ يقدّم للناس صورة مريحة لكنها زائفة، بأنّ الأمان يكمن في التشابه، وأنّ الآخر المختلف هو أصل الخطر.
بهذا المنطق، يصبح التنوع تهديدًا يجب عزله، والاختلاف مادة للاتهام، والمواطنة مشروطة بالانتماء. فيُعاد تعريف الناس بعضهم لبعض ليس بناءً على القيم أو العمل أو الأخلاق، بل بناءً على الطائفة، أو المذهب، أو المنطقة، أو اللهجة.
من الكلمات إلى الدم: كيف تعمل الكراهية في الواقع؟
حين تُكرَّر السرديات الإقصائية وتترسّخ في الوعي الجماعي، تتحوّل إلى أرضٍ خصبةٍ للعنف المادي. فالسلاح لا يُستخدم إلا بعد أن تبرّره اللغة. والحروب الأهلية لا تندلع لأن الناس يكرهون بعضهم فجأة، بل لأنّ خطابًا ما، في مكانٍ ما، أقنعهم أن الكراهية حقّ مشروع.
في لبنان، شكّلت أحداث الطيونة (أكتوبر/تشرين الأول 2021) لحظةً كاشفة عن هشاشة النسيج الوطني أمام خطاب الكراهية. فبعد تبادل الاتهامات الإعلامية والسياسية حول هوية المُعتدين، شهدت مواقع التواصل الاجتماعي انفجارًا في التحريض الطائفي والشتائم الجماعية، أعقبته اشتباكات مسلحة أدّت إلى مقتل وجرح العشرات. وأشارت تقارير المركز اللبناني للدراسات الإعلامية (2022) إلى أنّ الخطاب التحريضي سبق الحدث الميداني بأيام، عبر نشر مقاطع وتصريحات متبادلة تغذّي الشك والعداء بين المجموعات.
لا ينهار وطنٌ حين تُقصف مدنه فحسب،
بل حين تتآكل ثقة الناس ببعضهم
وفي عامي 2024 و 2025، وخلال حملات التضييق على اللاجئين السوريين في لبنان، تصاعدت حملة رقمية تحت وسم #محتلين_بتياب_نازحين، تضمّنت عبارات تحريضية مثل: “لبنان للبنانيين فقط وعودوا إلى بلادكم قبل أن نعيدكم”. وقد وثّقت منظمة العفو الدولية (أبريل 2025) ومركز سكايز للإعلام والحريات (SKeyes) تصاعدًا غير مسبوق في منشورات الكراهية على المنصات اللبنانية، محذّرين من أنّ التحريض اللفظي ضد اللاجئين قد يمهّد لاعتداءات فعلية، وهو ما حصل فعلًا في أكثر من منطقة شهدت حالات طرد جماعي وعنف لفظي ومادي.
أما في سوريا، فقد وثّقت منظمة سوريون من أجل الحقيقة والعدالة (تقرير 2023) أنّ الإعلام السوري الرسمي وبعض وسائل المعارضة استخدموا مصطلحات مثل “إرهابي”، “مرتزق”، “عميل”، و”تكفيري”، لتوصيف فئات كاملة من المواطنين أو المقاتلين، مما أدى إلى تجريد جماعات من إنسانيتها وتبرير العنف ضدها. وأشار التقرير إلى أنّ هذه اللغة الإقصائية لعبت دورًا محوريًا في تطبيع فكرة الحرب الأهلية داخل الخطاب الشعبي.
الكراهية كمنظومة ثقافية
الكراهية لا تحتاج إلى منبرٍ سياسي لتعيش؛ يكفيها أن تجد مكانًا في اللغة اليومية. فهي تتسرّب إلى النكات، إلى الأغاني الشعبية، إلى الأمثال المتداولة، وإلى خطاب الأم مع طفلها حين تحذّره من الآخرين. بهذا الشكل، يصبح الناس جميعًا جنودًا في معركةٍ لا يعرفون متى بدأت، ولا من بدأها، لكنهم يواصلون بها دون وعي.
يصفُ الكاتب السوري ممدوح عدوان هذه الظاهرة بدقة حين قال: “إنّ مجتمعات القمع تُولِّد ديكتاتورًا صغيرًا في داخل كل فرد”. وهذا الوصف لا ينطبق على سوريا وحدها، بل على لبنان أيضًا، حيث يُعاد إنتاج الديكتاتور الصغير في هيئة طائفية أو حزبية أو مناطقية، تُمارَس القمع باسم الهوية لا باسم الدولة. وهكذا تتحوّل اللغة اليومية إلى جهاز رقابة غير مرئي يحدّد ما يمكن قوله ومن يجوز سماعه.
ما وراء الفرد: الحاجة إلى بنية قانونية ومؤسساتية
من الخطأ الظنّ أن مواجهة الكراهية مسؤولية الأفراد وحدهم؛ فكما أن إنتاجها عمل منظَّم، فإن تفكيكها يحتاج إلى بنية فوقية تحمي الفضاء العام من التحريض المنهجي. في لبنان، تنصّ المادة 317 من قانون العقوبات اللبناني على تجريم كل عمل يقصد منه إثارة النزاعات المذهبية أو العنصرية أو الحضّ على النزاع بين الطوائف. غير أنّ تقارير المفكرة القانونية (2023) تشير إلى أنّ هذه المادة تُطبَّق انتقائيًا وغالبًا ما تُستخدم ضد الصحافيين والناشطين بدلًا من معاقبة المحرضين الطائفيين الفعليين.
أما في سوريا، فالقانون الإعلامي رقم 108 لعام 2011 يحظر نشر ما يهدّد الوحدة الوطنية أو يثير العصبية الطائفية، إلاّ أنّ غياب استقلالية القضاء حوّله إلى أداة رقابة لا حماية. كما أنّ قانون الجرائم الإلكترونية لعام 2022 تضمّن نصوصًا ضد خطاب الكراهية عبر الإنترنت، لكنه استُخدم بحسب هيومن رايتس ووتش (2023) لتكميم الأفواه بدلًا من ملاحقة التحريض الحقيقي.
القانون يضع الحدود، لكن الثقافة تصوغ السلوك
من هنا يصبح الإصلاح القانوني ضرورةً مزدوجة؛ لحماية حرية التعبير أولًا، ولحساب ومحاسبة التحريض ثانيًا. فالفصل بين النقد المشروع والتحريض الطائفي ليس ترفًا بل شرطٌ لأيّ سلامٍ مدني مستدام.
لكن القوانين وحدها لا تكفي، لا بدّ من مؤسسات رقابية ومجتمعية مستقلة تمارس الرصد والمساءلة بشفافية. في لبنان، يقوم مركز سكايز للإعلام والحريات (SKeyes) بإصدار تقارير شهرية حول خطاب الكراهية في الإعلام ومواقع التواصل، وهي تجربة رائدة يمكن تطويرها بالتعاون مع منصات رقمية ومراكز أبحاث محلية.
وفي سوريا، أطلقت منظمات مدنية في عام 2025 مبادرة لصياغة مدونة أخلاقيات إعلامية لمواجهة خطاب الكراهية وتعزيز التغطية المتوازنة، رغمَ العقبات السياسية أمام تنفيذها.
نحو ثقافة مضادة للكراهية
القانون يضع الحدود، لكن الثقافة تصوغ السلوك. ولذلك فإنّ مكافحة خطاب الكراهية لا يمكن أن تتحقّق بالمنع وحده، بل بالمعرفة، وإعادة تعريف ما تعنيه الكلمة المسؤولة. إنّ التربية على التفكير النقدي تبدأ من تفاصيل صغيرة؛ لحظة التوقّف قبل أن نعيد نشر خبرٍ لم نتحقّق منه، لحظة الإصغاء بدل الردّ، لحظة اختيار مفردة أدق بدل الشتيمة السهلة، لحظة الفضول لفهم المختلف بدل محاكمته.
ولكي تتحوّل هذه القيم إلى ممارسة جماعية، يمكن ترجمتها إلى خطوات عملية متعدّدة المستويات:
- في التعليم: إدراج مفاهيم التفكير النقدي والتربية على التنوّع في المناهج وربطها بسياقات حياتية واقعية بدل الاكتفاء بالمثال النظري.
- في الإعلام: اعتماد مدونات سلوك مهنية تُلزم الصحفيين بالتحقق من المعلومات والامتناع عن استخدام لغة تمييزية أو تحريضية، مع إنشاء مجالس شكاوى مستقلة.
- في المجتمع المدني: إطلاق حملات رقمية لرصد المحتوى التحريضي والإبلاغ عنه، وتدريب ناشطين على تحليل الخطاب وتفكيكه.
- في المنصات الرقمية: التعاون بين المراقبين المحليين وشركات التكنولوجيا لوضع آليات استجابة سريعة للمحتوى التحريضي بالعربية، أسوةً بتجارب الاتحاد الأوروبي.
- في السياسة العامة: صياغة استراتيجية وطنية مشتركة بين وزارات الإعلام والتربية والثقافة والمجتمع المدني لمكافحة خطاب الكراهية بالوسائل القانونية والتعليمية والإعلامية معًا.
إنّ سوريا ولبنان لا يحتاجان فقط إلى إعمار الحجر، بل إلى ترميم العلاقة بين البشر. المصافحات السياسية لا تُبنى عليها المصالحة إن بقيت اللغة مُعتلّة. والكراهية حين تنتشر تجعل التعايش مسرحية والمواطنة مجرّد شعار.
اللغة التي تصنع الكراهية هي نفسها القادرة على صنع السلام، لكنّها تحتاج إلى وعي ومسؤولية لأنّ الكلمة ليست بريئة أبدًا؛ هي بذرة أو رصاصة، جسْر أو جدار، حياة أو بداية انهيار.
وإذا كانت الحرب قد بدأت بسردية تُقصي وتخوِّن، فإنّ الطريق إلى السلام يبدأ بسردية أخرى؛ سردية تُصغي بدل أن تصرخ، تسأل بدل أن تتهم، وتبني بدل أن تهدم. إنّ مقاومة خطاب الكراهية ليست رفاهية فكرية بل شرط وجودي لمستقبلٍ مشترك. فحين تتعافى اللغة، تتعافى الأوطان.











مقالة رائعة ومعبرة عن الواقع