وسط الركام المتناثر في الجنوب اللبناني، جراء آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة، يقف/تقف المواطن/ة حائرًا/ة بين أطلال منزله/ا وذكرياته/ا، يتساءلون: متى تتحول وعود الإعمار إلى واقع؟ ومتى يستعيدون ولو جزءًا يسيرًا من حياتهم/ن التي سبقت الحرب؟
لكن تمر الأيام، ويظل الركام شاهدًا صامتًا على جراح الحرب، مهددًا ما تبقى من حياة في هذه المناطق المنكوبة. وبينما تتقاذف الأطراف مسؤولية إزالة الركام، يبقى السكان أسرى الانتظار، يحلمون بيومٍ لا تكون فيه رائحة الغبار بديلًا عن نسيم قراهم، ولا يكون الركام هو المشهد الأول عند شروق الشمس.
منذ إعلان اتفاق وقف إطلاق النار فى 27 تشرين الثاني 2024، لاتزال كميات هائلة من الردميات متراكمة، لاسيما في الضاحية الجنوبية التي شهدت دمارًا واسع النطاق وجنوب لبنان والبقاع. ورغم انطلاق عمليات رفع الركام، إلا أنها تُنفذ بعشوائية، من دون مراعاة لحجم الضرر البيئي الناجم عنها أو الاستفادة من عمليات التدوير كمكسب اقتصادي.
فى المقابل، تبدو بيانات وزارة البيئة بشأن سُبل التخلص الآمن من الركام ومحاولات معالجته مجرد حبر على ورق، في ظل مقترحات تتضمن إلقاءه فى البحر، أو نقله إلى مكبات عشوائية، أو رميه في مقالع من دون أي معالجة، الأمر الذي يستدعي تحركًا عاجلًا لوقف هذه الجريمة بحق الشعب اللّبناني وبيئته، إذ لم يعد لبنان قادرًا على تحمل المزيد من التٍدهور البيئي.
حجم ردميات الحرب
يُظهر هذا الانفوغراف أحدث التقييمات التي أُجريت بالتعاون بين برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان (UN-HABITAT Lebanon)، وجامعة البلمند (UOB)، ومركز البحوث البيئية لشرق البحر الأبيض المتوسط (CREEMO) في جامعة القديس يوسف في بيروت (USJ) ، ونُشرت فى 22 يناير 2025 ، حيث بلغ عدد المباني المدمرة كليًا أو جزئيًا في محافظات الجنوب، النبطية، البقاع، وبعلبك-الهرمل نحو 19,537 مبنى، بواقع 13.784 فى النبطية، و4.723 مبنى فى محافظة الجنوب، و464 مبنى في البقاع، و566 مبنى في بعلبك-الهرمل.

وفي مقارنة بإجمالي عدد المباني قبل النزاع، والبالغ نحو 237,425 مبنى، تبلغ النسبة المئوية للمباني المهدمة حوالي 8%. ويوضح الشكل الآتي النسبة المئوية في كل منطقة على حدة:

ووَفْقًا للتقييمات ذاتها، بلغ عدد الوحدات السكنية المدمرة كليًا أو جزئيًا نحو 42,384 وحدة، بواقع 27,181 وحدة في النبطية، و12,763 في الجنوب، و1,359 في البقاع، و1,081 في بعلبك-الهرمل.”

أكثر من 6 ملايين متر مكعب من الركام ما زالت جاثمة على الأرض
بلغ حجم الحطام الناتج عن المباني المدمرة في محافظات الجنوب، النبطية، البقاع، وبعلبك-الهرمل نحو 6,615,261 مترًا مكعبًا، حيث استحوذت مرجعيون على النسبة الأكبر بواقع 2,163,462 مترًا مكعبًا، تليها بنت جبيل بواقع 1,676,728، ثم صور بواقع 1,820,606 مترًا مكعبًا أيضًا، كما هو مُوضح في الرسم الآتي:

كما يتراوح وزن الحطام بين 10.5 مليون طن كحدّ أدنى و14 مليون طن كحدّ أقصى، وفقًا للتقييمات الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في لبنان، جامعة البلمند وجامعة القديس يوسف في بيروت.
في هذا السياق، أصدرت وزارة البيئة اللبنانية بياناً بتاريخ 5 كانون الأول (ديسمبر)، يتناول إرشادات بيئية لإدارة ردميات الحرب، مشددًا على أهمية الفرز وإعادة التدوير والتخلص الآمن للحد من المخاطر البيئية والصحية. كما يؤكد على اختيار مواقع التجميع المؤقت والتخلص النهائي ضمن كل محافظة، مع تجنب الرمي العشوائي. ورغم هذه التوجيهات، لا تزال عمليات إزالة الركام تواجه عقبات، خاصة في الضاحية الجنوبية، وسط مخاوف من ردم البحر وما قد يسببه من أضرار بيئية واقتصادية جسيمة.
الحكومة اللبنانية تُقر اعتمادات رفع ركام ما خلفه العدوان الإسرائيلي
أعلن وزير الأشغال اللبناني علي حمية فى ديسمبر 2024 أن الحكومة وافقت على تحويل اعتمادات لمسح الأضرار ورفع الأنقاض، إذ خُصص مبلغ وقدره 900 مليار ليرة لصالح مجلس الجنوب، و900 مليار ليرة لاتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، بالإضافة إلى 500 مليار ليرة للهيئة العليا للإغاثة.
أما فيما يتعلق بردميات الضاحية الجنوبية في بيروت، قال علي حمية: “إننا لسنا من المؤيدين لإلقاء الردميات في البحر، فبموجب قرار مجلس الوزراء هناك مشروع لتوسعة الكوستابرافا وفق المعايير البيئية والعالمية، والهدف الأساسي يتمثل فى السرعة في الإنجاز ورفع الأنقاض”.
لكن المعطيات على الأرض تعكس صورة مغايرة لهذه التصريحات، فى ظل استمرار إلقاء الركام فى البحر، ونقله إلى مكبات عشوائية من دون أي معالجة. إلى جانب ذلك، تُثار بعض التساؤلات حول جدوى توسعة مطمر الكوستا برافا وقدرته على استيعاب هذا الكم من الركام، وهو ما سنناقشه من خلال آراء الخبراء البيئيين.
في هذا الخصوص، يؤكد فادي أبي علام، رئيس حزب الخضر اللبناني، لمنصة صلة وصل، أن حجم الركام الناتج عن العدوان الإسرائيلي على لبنان العام المنصرم يفوق بكثير ذلك الذي خلفته الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990. ويُرجع ذلك إلى طبيعة الذخائر المستخدمة في العدوان، والتي تسببت في تدمير مبانٍ بالكامل، ما أدى إلى تضخم حجم الردميات بشكل غير مسبوق. يُشير أبي علام إلى أن هناك بعض مخلفات للذخائر مازالت غير منفجرة، مما يُشكل خطرًا على عمليات إزالة الركام، موضحًا أن الجيش اللبناني يقوم من حين لآخر بتفجير هذه الذخائر.
يشير أبي علام إلى أن موضوع تحويل الركام إلى مورد اقتصادي عوضًا عن عبءٍ بيئي يُثقل كاهل الدولة والمجتمع، وللتعامل معه يؤكد على ضرورة معالجة الردميات بمنهجية إعادة التدوير، ويشدد على أن كل المخلفات قابلة للاستفادة. يوضح أيضا أن الفرز السليم يكشف عن معادن ثمينة كالحديد والألومنيوم، إضافة إلى الأخشاب والرمل والبحص، التي يمكن إعادة تدويرها لاستخدامها في البناء وتعبيد الطرق.
هذه الأزمة هي فرصة لإعادة تنظيم المدن المتضررة، بحيث يتم التخلص من الأبنية المخالفة وإعادة تشييدها بشكل مستدام، مع توفير مساحات خضراء وحدائق، كما يتمنى كل إنسان يعيش فى وطن متحضر يحافظ على البيئة
يضيف، أن الحكومة اللبنانية رصدت ما بين 40 إلى 50 مليون دولار لنقل الردميات، مع بدء بعض التلزيمات وتحديد مواقع مثل المقالع ومكب كوستابرافا، حيث يُخصص كل مقلع لنوع معين من المواد المُفرزة لضمان إعادة التدوير السليم. يحذر أبي علام من الإلقاء العشوائي، مشددًا على رفض ردم البحر لما يسببه من اختلال إيكولوجي. كما يدعو إلى تحديد المناطق المتضررة بالقنابل الفوسفورية في الجنوب وإرسال عينات التربة الملوثة إلى مختبرات الجامعة اللبنانية لتحليلها، مشيرًا إلى تقنيات حديثة تعتمد على إنتاج بكتيريا خاصة لمعالجة التربة، ما يسمح بعودة الحياة الطبيعية خلال شهرين إلى ثلاثة أشهر.
يتمنى أبي علام استغلال هذه الازمة حيث إنّه يُمكن أن تُشكل فرصة لإعادة تنظيم المدن المتضررة، بحيث يتم التخلص من الأبنية المخالفة وإعادة تشييدها بشكل مستدام، مع توفير مساحات خضراء وحدائق،وأن كل إنسان يعيش فى وطن متحضر يحافظ على البيئة.
ركام العدوان الإسرائيلي مُحمل بغبار سام ومعادن ثقيلة
من جانبها، تُؤكد الخبيرة البيئية فيفي كلاب لمنصة “صلة وصل” أن أضرار الركام تنبع من عدة مصادر، أبرزها مخلفات القنابل والصواريخ التي تحتوي على معادن ثقيلة ومواد سامة مثل الديوكسين التي لا تتلاشَ أضرارها فور وقوع الانفجار، بل تمتص التربة هذه الملوثات، ويظل جزء كبير منها عالقًا فى الركام، ويتطاير مجددًا عند إزالته.
تُوضح أن الركام يحتوي أيضًا على مواد البناء من إسمنت ومعادن وأخشاب وبلاستيك وزجاج ، بالإضافة إلى محتويات المنازل المُدمرة، بما في ذلك الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، والمواد الكيميائية الخطرة والسامة مثل الأدوية والدهانات المحتوية على الرصاص، فضلًا عن الأسبستوس المستخدم في الأبنية القديمة للأسقف والخزانات وأنابيب المياه، إلى جانب المبيدات الزراعية أيضًا.
تُشدد كلاب على ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان سلامة العاملين في عمليات الإزالة، وحماية البيئة خاصة وأن هذه النفايات تتطلب أساليب إدارة ومعالجة دقيقة لتفادي أي تلوث قد ينجم عنها، وتجنب تعرض السكان للمواد السامة والمسرطنة، مثل ألياف الأسبستوس الناجمة عن تفجير خزانات المياه، والتى ثبتت مخاطرها الصحية حيث يمكن أن تظل كامنة في الجسم لمدة تصل إلى 40 عامًا، مما يزيد من خطر الإصابة بسرطان الرئة على المدى البعيد.
تتفق كلاب مع أبي علام حول خطورة اللجوء إلى ردم الركام في البحر من دون معالجته، لأنه يُدمر الموائل الطبيعية التى تُعد موطنًا للعديد من الكائنات الحية، وأن إلقاء الركام في البحر يُغير مجرى التيارات المائية، مما يجعل التلوث يطال مناطق بعيدة، ولايقتصر على مكان الإلقاء فقط.
أما فيما يتعلق بخسائر قطاع البيئة، تُوضح الخبيرة البيئية أنها فادحة، إلا أن تقديرها بدقة لا يزال صعبًا نظرًا لتعذر الوصول إلى بعض المناطق المتضررة وعدم إجراء مسح شامل للأضرار حتى الآن، مشيرة إلى تقرير صادر عن البنك الدولي فى 27 أيلول 2024 والذى قدر الخسائر البيئية بنحو 221 مليون دولار ، بينما عدّ المجلس الوطني للبحوث العلمية CNRS أن الجنوب اللبناني تحول بالكامل إلى “محيط حيوي حربي”، واصفًا الوضع بأنه “إبادة بيئية” أو Ecocide.
أصحاب المقالع يمارسون ضغوطًا لإلقاء الركام في البحر بدلًا من فرزه
تتهم كلاب أصحاب المقالع والكسارات بممارسة ضغوط على بعض المسئولين في الدولة وإقناعهم بإلقاء الركام فى البحر بحجة أن عمليات الفرز مكلفة جدًا، وتأخذ وقتًا طويلًا وتعوق عودة الحياة إلى طبيعتها.
وفي هذا السياق، تقول إن تكلفة عمليات النقل والفرز أقل بكثير من التكلفة الباهظة المترتبة على التعامل العشوائي مع الركام، الذي يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان، ما يُثقل كاهل الدولة بتكاليف العلاج ويؤدي إلى خسائر كبيرة على المدى الطويل.
شركة “خطيب وعلمي” تنفرد بدراسة الأثر البيئي
تُوضح كلاب أن الحكومة خصصت نحو 50 مليون دولار لرفع الركام، في حين رصد البنك الدولي نحو 250 مليون دولار لهذا الغرض، إلا أن الفساد واحتكار المتعهدين حال دون استثمار هذه الأموال بشكل فعال، حيث تم إسناد أعمال المسح وإزالة الركام بطرق تفتقر إلى الشفافية، من خلال اتفاقات رضائية أبرمتها وزارة الأشغال، بدلا من اللجوء إلى آلية المناقصات العلنية، مشيرة إلى إسناد دراسة الأثر البيئي إلى شركة واحدة فقط وهي “خطيب وعلمي”.
وتُقول إن الضغوط المتزايدة من الجمعيات البيئية وبعض أعضاء البرلمان دفعت وزارة الأشغال إلى التعهد بإضافة ملحق بيئي إلى دفتر شروط تلزيم أعمال الهدم.
وتُضيف قائلة : “توجد ثلاث جهات مسؤولة عن ملف إزالة الركام وهي اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية، ومجلس الجنوب، والهيئة العليا للإغاثة. وقد خُصصت لها اعتمادات مالية لتنفيذ عمليات المسح والإزالة وفقًا لدفتر شروط محدد، إلا أن غياب استراتيجية موحدة لإدارة هذا الملف، أدى إلى فوضى في التنفيذ، حيث تعمل كل جهة وفق مصالحها الخاصة، ما أسفر عن تحقيق أرباح طائلة على حساب البيئة، فنجد أن اتحاد بلديات الضاحية الجنوبية قام بنقل الركام إلى مطمر كوستابرافا، بحجة عدم وجود مساحات كافية لفرزه وارتفاع تكلفة النقل”.
الفساد وغياب الرقابة..عقبتان أمام حل أزمة الركام في لبنان
وفى ختام حديثها، تقول الخبيرة البيئية:”للأسف لم نعد نثق فى الدولة وتعاملها مع الأزمات خاصة بعدما شاهدنا كيف تم ردم ركام انفجار مرفأ بيروت فى البحر”.
فى ظل استمرار أزمة ركام العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان من دون حلول جذرية، وتصاعد المخاوف من التداعيات البيئية التي قد تقضي على الأخضر واليابس، تتزايد المطالب باعتماد استراتيجيات مدروسة للتعامل مع هذه المخلفات، بعيدًا عن العشوائية التي قد تؤدي إلى اختلال بيئي خطير، مما يجعل الحاجة إلى تحرك بيئي ومجتمعي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.