في تجمُّعٍ عائليٍّ، حيث الجميعُ مشغولٌ بتبادل التحيات والسؤال عمَّن حَضَرَ ومن غاب، تُخصَّصُ غرفةُ الاستقبال للكبار فقط، بل البيتُ كلُّه! ممنوعٌ على الأطفال التجوُّل هنا، فليلعبوا بعيدًا. لكنَّ هذا الطفلَ لم يجد مكانَه بين جموع الأطفال، والغزالَ الشاردَ فريسةٌ سهلةٌ للوحوش. ولكن أيُّ وحوشٍ قد توجد في أجواءٍ حميميةٍ كهذه؟ إنهم الوحوشُ المستترةُ بيننا، الذين ينتهزون فرصًا كهذه ليصطادوا الطفلَ الشاردَ. لن يفرق جنسُه أو لونُه أو شكلُه أو عمرُه في شيءٍ، المهمُّ أن يطمئنَّ إلى الفخِّ المنصوب، وألَّا يبوحَ بما حدث.
هذا سيناريو واحدٌ من سيناريوهاتَ تختلفُ في تفاصيلها لكنها تتشابه في بشاعتها، تتكرر حولنا بشكلٍ شبه يوميٍّ. وقد سلَّط مسلسل “لام شمسية” – الذي عُرض في رمضان 2025 وانتهى لتوِّه – الضوءَ على قضيةٍ تُعدُّ من التابوهات في مجتمعاتنا العربية وهي التحرش الجنسي بالأطفال. نتابعُ من خلاله رحلةَ الطفل يوسف وأمِّه وأبيه في مواجهة وسام (الجاني والمتحرش)، عبر جلسات العلاج النفسي.
على المستوى الدرامي، لا شكَّ أن العملَ قدَّمَ إبداعًا واحترافيةً عالية، ويجب الإشادةُ بأداء الممثل المصري محمد شاهين الذي جسَّد دورَ وسام، ليس فقط لصدق أدائه، بل أيضًا لجرأته في قبول مثل هذا الدور. مع أن هذا هو دور الفن الأساسي، كشفُ هذه النماذج. لكن لا يُغفَل أن مجتمعاتنا لا تتقبَّل ولا ترحم، وقد يرى البعضُ أن هذا العمل سيبقى وصمةً في تاريخ شاهين الفني والشخصي.
لو أن الطفل يوسف من طبقةٍ اجتماعيةٍ أو اقتصاديةٍ أو ثقافيةٍ أدنى، حيث التابو أكثرُ سطوةً، والجهلُ والوعيُ المحدودُ سائدان – هل كان سيجد أمًّا تحتضنه وتستمع إليه وتقرر خوضَ حربٍ كهذه من أجله؟
وإذا سمح لي كُتَّابُ العمل ومنتجوه بمحاكاة الأحداث في ظروفٍ مختلفةٍ – لو أن الطفل يوسف من طبقةٍ اجتماعيةٍ أو اقتصاديةٍ أو ثقافيةٍ أدنى، حيث التابو أكثرُ سطوةً، والجهلُ والوعيُ المحدودُ سائدان – هل كان سيجد أمًّا تحتضنه وتستمع إليه وتقرر خوضَ حربٍ كهذه من أجله؟ لا نشكُّ في أمومة أي أمٍّ، لكن هل ستتقبَّلُ نظراتِ المجتمع الجارحةَ وهي تُجهر بما حدث لابنها؟ هل ستستطيع الوقوفَ في وجه كلِّ مَن سيحاول ثنيَها عن موقفها؟ وحتى لو صمدت، فمن ستشتكي إليه؟ ومَن سيُعيدُ حقَّ ابنها المسلوب؟ وهل سيغفر لها ابنُها – بعد سنوات – “الفضيحةَ” التي حاولت أن تنصفه بها؟
تزامنًا مع عرض المسلسل، انتشر على فيسبوك منشورٌ كُتِب فيه “محظوظٌ هو مَن مرت طفولتُه دون أن يتحرَّش به أحدٌ جسديًّا”. ولندرك ما كنت أتحدث عنه مسبقًا عن الضغط المجتمعي ونظرته الجارحة لحالات التحرش الجنسي بالأطفال – نُظرةٌ تُلامِسُ المعتدَى عليه لا المعتدي – لنقرأ بعض التعليقات على منصات التواصل الاجتماعي:“شعور العظمة لما تكون الوحيد اللي متاخدتش وأنت صغير” (422 تفاعلًا)،“يا متاخدة”،“البوست اللي مراتك هتوريهولك يوم الدخلة بدل حوار العجلة عشان اتهرش”.هذه التعليقات – ومئاتٌ مثلها – تُظهر جزءًا بسيطًا من المعركة التي تواجهها الضحية إذا فكَّرت في الإفصاح.
كما برز في المسلسل الدورُ الجوهري للطبيب النفسي في احتواء الأزمة وتوعية الأسرة، لكن كم تكلِّف جلسةُ العلاج النفسي للفرد؟ فما بالك بالجلسات الجماعية؟ ليست مبالغة ولكن العلاجُ النفسي رفاهيةٌ لا يقدر عليها إلا قلَّةٌ في مجتمعنا. ومع أهمية العلاج في التعافي من الصدمة وتجنُّب التشوُّهات النفسية الأشد، يبقى الوصول إليه حلماً بعيدًا للكثيرين.
برز في المسلسل الدورُ الجوهري للطبيب النفسي في احتواء الأزمة وتوعية الأسرة، لكن كم تكلِّف جلسةُ العلاج النفسي للفرد؟ فما بالك بالجلسات الجماعية؟
وضع فوق هذا كله أن العمل لم يتطرق إلى الحالات الأكثر حدة، فالاعتداء في الأغلب يكون من الشخصيات المقربة لأسرة طفل سواء أحد الأقارب أو أصدقاء للعائلة أو المدرس، لكن هل تعلم أن هناك حالات يتحرش فيها الآباء بأبنائهم، وفي حالات يكون من باب الهواجس الجنسية الدنيئة ولكن في حالات أخرى يكون من باب فرض السيطرة واستلاب القدرة والهيمنة السلطوية، حالة كسر للذات والنفس وإجبار على الخضوع.
وإن كان لي عتاب أخير، لا أدري هل يجوز الكتابة عنه من باب النقد الفني أم من باب السخرية، لكن يجب شكر مخرج العمل وكل من ورائه على اختيار أغنية (اسلمي يا مصر) لختام العمل، ربما كانت مصر إحدى ضحايا (وسام) دون أن نعلم، لكنَّ هذا الاختيار يُذكِّرنا بنوعٍ آخر من السلطوية التي تجاهلها المسلسل، سلطوية لا تختلف كثيرا عن السلطوية الأبوية في دكتاتوريتها وهيمنتها واستلابها للحقوق وقمعها للحريات.
لا نقلل من دور مسلسل “لام شمسية”، بل نرى فيه أمل لأعمال درامية غير مؤدلجة ومنفصلة عن الواقع، لكن هذا لا يمنعنا من مناقشة الموضوع بشكل أعمق مسلطين الضوء على أن الواقع أكثر مرارة، حيث حاول صناع العمل اختيار شريحة مجتمعية ظروفها أهون من أغلبية الحالات المنتشرة في المجتمع، لكن ما زال للقصة بقية لم تروَ، فكيف ستكون حياة الطفل (يوسف) حين يكبر؟
كريم -أحد الناجين- يعيش صدمة الإعتداء الجنسي التي كانت تمارس عليه من قبل أحد أقاربه حتى يومنا هذا، وكان صغيرًا حينها فلا يدرك أمر ما يحدث معه ولكنه كان يستشعر أن هناك خطب ما، و حين كبُر أدرك الفظاعة وبأن الآوان قد فات للشكوى أو الإعتراض أو حتى الإنتقام.
ومع ذلك، يُجبَر على مصافحةِ مُعتديه في كلِّ مناسبةٍ عائليةٍ! “تخيَّل أن تُظهِر الاحترامَ لِمَن كسرك ” وتبادل الود والاحترام بل والتقدير لأنه يكبرك سنًا، تخيّل أن تكون مُجبرًا على مصافحة الوحش الذي التهمك! أن تُظهر الحميمية لقاتلك! وأن ترتمي في أحضان المُعتدي عليك!.
الألم لا ينتهي مع انتهاء الاعتداء الجنسي على الطفل، وحق المُعتدى عليه قد لا يرد أبدًا، وفي الأغلب النهايات السعيدة لا وجود لها في مثل تلك الحالات.
يعيش (كريم) بإحساس العجز وقلة الحيلة لفترات طويلة، يُعتدى عليه في كل مرة يتعامل مع قريبه هذا، ويكتم الألم في نفسه، لا جديد يحدث ولا شيء يتغير إلا ألمه الذي يتفاقم. فلا أحد يشتكي له، ولن تنفعه الشكوى في شيء بل ستخلق مشاكل أكبر بين أفراد العائلة، وما يضعف موقفه أنه يعجز تماما عن إثبات أي من اتهاماته، فالألم لا ينتهي مع انتهاء الاعتداء الجنسي على الطفل، وحق المُعتدى عليه قد لا يرد أبدًا، وفي الأغلب النهايات السعيدة لا وجود لها في مثل تلك الحالات.
في النهاية، ومرة أخرى ربما بدون المسلسل لولا نقائصه لما زاد الوعي، ولما كُسر تابو مثل تابو (التحرش الجنسي بالأطفال)، وأصبح حديث للرأي العام. بالتأكيد بعد انتهاء المسلسل هناك ولو نسبة قليلة من الناس ستبدأ في أخذ مواقف جادة، تسعى من خلالها لاسترداد حقوق أبنائها، وعمل بعده عمل سنصل يوما للوعي المجتمعي المطلوب، “لام شمسية” فتح البابَ لوعيٍ مجتمعيٍّ قد يُنهي – يومًا – سلطويةَ الصمت.