مع اقتراب شهر نوفمبر، يعود الحديث مجددًا عن اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، الذي يُحتفل به في 25 نوفمبر من كل عام. وتعود هذه المناسبة إلى الحدث التاريخي المروع عام 1960 في جمهورية الدومينيكان، حيث اغتيلت الأخوات ميرابال – باتريا، ماريا مينيرفا، وأنطونيا ماريا تيريزا – بوحشية على يد نظام الديكتاتور رافائيل تروخيلو. كانت الشقيقات، الملقبات بـ”الفراشات”، رمزًا للمقاومة ضد حكم تروخيلو، الذي استمر 31 عامًا واتسم بالقمع الوحشي. رفضن الخضوع واستمررن في النضال حتى اللحظة الأخيرة. اغتيالهن كان الشرارة التي أشعلت التمرد الشعبي، الذي أدى بعد أشهر قليلة إلى مقتل تروخيلو نفسه.
إن قصة الأخوات ميرابال ليست فقط حكاية نضال ضد الدكتاتورية، بل أيضًا قصة رمزية للعنف الذي تتعرض له النساء في جميع أنحاء العالم منذ عقود طويلة. فمنذ عام 1960 وحتى اليوم، العنف ضد المرأة لم يتوقف، بل أخذ أشكالًا جديدة ومستويات أكثر تعقيدًا، بدءًا من العنف الجسدي والنفسي إلى القتل على خلفية “الشرف”. هذه الأشكال المختلفة تبرز في مجتمعاتنا العربية بشكل مأساوي.
من مذبحة 1960 إلى صرخات اليوم: العنف ما زال لغة الحوار
في لبنان، العنف ضد النساء يواصل حصده للأرواح وكأنها أرقام جديدة تُضاف إلى قائمة الضحايا. منذ خمسة أشهر، برزت قصة مقتل امرأة في المية ومية بعد أن قتلت على يد زوجها بطريقة وحشية، مما أثار صدمة واسعة. هذه الحادثة ليست الوحيدة، فقد شهد العام الماضي أيضًا مقتل أميرة مغنية، التي لم يكتف زوجها بإهانتها وتعنيفها لسنوات، بل قرر أن يقتلها خنقًا أثناء إجراءات الطلاق في أستراليا. تتكرر هذه القصص وكأن شيئًا لم يتغير، وكأن النساء في لبنان، وحتى في القرن الواحد والعشرين، ما زلن ضحايا لثقافة العنف والإفلات من العقاب.
أرقام صادمة
بحسب إحصاءات نشرتها منظمة كفى اللبنانية، شهد لبنان في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري 13 جريمة قتل بحق النساء، مما يمثل زيادة ملحوظة مقارنة بـ18 جريمة في عام 2023. إذا استمر هذا الاتجاه، فقد تصل نسبة الزيادة إلى 60% بنهاية العام، مع الأخذ في الاعتبار حالات الاعتداءات والمحاولات الأخرى التي تظل غير مسجلة.
ترى مديرة منظمة كفى، زويا جريديني، في تقرير لجريدة الشرق الأوسط، أن هذه الظاهرة في تزايد بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي والقوانين المتحيزة التي تعزز الهيمنة الذكورية. وفي ظل هذه الظروف، من الضروري إنشاء محاكم أسرية متخصصة وزيادة الوعي المجتمعي لضمان أن تصبح هذه الأرقام المروعة شيئًا من الماضي.
شهد لبنان في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري 13 جريمة قتل بحق النساء، مما يمثل زيادة ملحوظة مقارنة بـ18 جريمة في عام 2023.
وفي تقرير آخر من الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية، تلقت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي 56 شكوى عن حالات عنف جسدي و17 حالة عنف معنوي في شهر أغسطس من هذا العام وحده.
كما يكشف تقرير صادر عن SMEX أن 80% من النساء في لبنان تعرضن للعنف الرقمي بين عامي 2020 و2023. هذا الرقم الصادم لا يعكس فقط حجم المشكلة، بل يكشف عن حقيقة مخزية، وهي أن العنف ضد النساء لم يعد محصورًا في الشارع أو المنزل؛ بل أصبح جزءًا من حياتهن الرقمية أيضًا.
وفي عام 2022، تم احتجاز 82 شخصًا بتهم ارتكاب جرائم إلكترونية ضد النساء، لكن هذا الرقم لا يعكس حجم المأساة الحقيقية، إذ تتردد العديد من النساء في تقديم شكاوى خوفًا من الفضيحة أو عدم الثقة في الجهات الأمنية.
السيدة غيدا أناني، مؤسسة ومديرة مركز أبعاد، قالت لمنصة صلة وصل:”هناك ازدياد في حالات العنف المنزلي، بما في ذلك العنف الجسدي والنفسي والاقتصادي، وارتفعت حالات التحرش الجنسي بنسبة 20% في الأماكن العامة وأماكن العمل”. وأضافت، الدراسات تشير إلى أن 60-70% من النساء اللواتي يتعرضن للعنف لا يقدمن بلاغات، بسبب الوصمة الاجتماعية والخوف من التداعيات. كما تزداد معدلات العنف في المناطق الريفية والمهمشة، خصوصًا بين الفتيات والشابات (15-25 عامًا)، مما يعكس الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
تأثير الظروف الخاصة بجنوب لبنان على العنف ضد النساء
تؤكد أناني إلى أن الظروف الخاصة بجنوب لبنان، مثل التوترات الأمنية والاقتصادية، أتؤثر بشكل كبير على مستوى العنف ضد النساء. شهدت المنطقة نزوحًا كبيرًا إلى مناطق أخرى، مما يؤدي إلى زيادة حالات العنف المرتبطة بالصراعات العائلية والمجتمعية. كما أن نقص الخدمات والدعم في بعض القرى يزيد من تفاقم الوضع. وبالرغم من أن أنماط العنف لا تختلف كثيرًا عن باقي المناطق اللبنانية، إلا أن هناك زيادة ملحوظة في حالات التبليغ عن العنف القائم على النوع الاجتماعي، خاصة في سياق الصراعات السياسية والأمنية.
أن الظروف الخاصة بجنوب لبنان، مثل التوترات الأمنية والاقتصادية، تؤثر بشكل كبير على مستوى العنف ضد النساء. شهدت المنطقة نزوحًا كبيرًا إلى مناطق أخرى، ممايؤدي إلى زيادة حالات العنف المرتبطة بالصراعات العائلية والمجتمعية.
قوانين بلا أثر: مبادرات 2024 لمكافحة العنف في لبنان
وفقًا لتقرير صادر عن المركز العربي واشنطن دي سي، اقترح نواب الإصلاح في لبنان قانونًا جديدًا في مارس 2024 لمكافحة العنف ضد المرأة، تم صياغته بالتعاون مع منظمات نسوية محلية وبالاستناد إلى الاتفاقيات الدولية. يسعى هذا القانون إلى القضاء على التمييز القانوني وسد الثغرات التي لطالما سمحت بجرائم “الشرف” والاغتصاب الزوجي، بالإضافة إلى إنشاء محاكم متخصصة وملاجئ لتوفير الحماية للنساء. على الرغم من هذه المبادرات الواعدة، تظل الطائفية المتجذرة العقبة الأكبر أمام تحقيق أي تقدم فعلي.
وفقًا لتقرير صادر عن المركز العربي واشنطن دي سي، اقترح نواب الإصلاح في لبنان قانونًا جديدًا في مارس 2024 لمكافحة العنف ضد المرأة، تم صياغته بالتعاون مع منظمات نسوية محلية وبالاستناد إلى الاتفاقيات الدولية. يسعى هذا القانون إلى القضاء على التمييز القانوني وسد الثغرات التي لطالما سمحت بجرائم “الشرف” والاغتصاب الزوجي، بالإضافة إلى إنشاء محاكم متخصصة وملاجئ لتوفير الحماية للنساء. على الرغم من هذه المبادرات الواعدة، تظل الطائفية المتجذرة العقبة الأكبر أمام تحقيق أي تقدم فعلي.
يشير التقرير إلى أن النظام السياسي في لبنان لا يزال أسيرًا للطائفية، حيث تتحكم الزعامات الدينية في القرارات المتعلقة بالقوانين الشخصية والعائلية، مثل الزواج والطلاق والحضانة. ولأن هذه الزعامات تتمتع بدعم سياسي واسع، فإنها تقف سدًا منيعًا أمام أي إصلاح يهدد سلطتها أو يتحدى القوانين التقليدية لكل طائفة. وبالتالي، تصبح القوانين التي تستهدف تحسين وضع المرأة مجرد نصوص على ورق، تُدفن تحت ثقل الحسابات الطائفية التي تضع حماية النظام فوق حماية حقوق النساء. وهكذا، يظل مشروع القانون الجديد لعام 2024 عالقًا في دوامة النظام الطائفي الذي يُفشل أي محاولة لتغيير واقع المرأة في لبنان.
من الملكية إلى الهيمنة: العنف ضد المرأة في لبنان بين الإرث المجتمعي والقوانين الغائبة
لا يمكن فصل العنف ضد المرأة عن السياق الاجتماعي والثقافي المتجذر في لبنان، الذي يعزز الهيمنة الذكورية. الأرقام تؤكد الواقع الصادم، لكن خلف هذه الأرقام تقف معتقدات قديمة تصعب اقتلاعها.
تشير الباحثة الاجتماعية مي مارون في حديثها لمنصة صلة وصل:”لطالما اعتبر الرجل منذ زمن بعيد أن المرأة ملكه، وأنه وصي عليها. ورغم تغير النظرة بعض الشيء، لا تزال الفكرة قائمة في عقول المجتمع بأن الرجل هو المسؤول عن سلوك شريكته، ويتجلى ذلك في عبارات مثل ‘مش قادر يضب مرته’. ولأنه يعتبرها من ممتلكاته، عندما تشذ المرأة عن هذا الإطار تتعرض للعنف”. وتضيف:”إن القانون لا يحمي المرأة بشكل كافٍ في لبنان، وعندما تتقدم المرأة بشكوى، تُسأل أسئلة مثل ‘هل طولتي لسانك عليه؟’ أو ‘شو عملتي حتى ضربك؟’. حتى الأهل يستخدمون عبارات مثل ‘معلش’ و’طولي بالك’، مما يوحي بأن المجتمع يوافق على العنف. كما أن الأوضاع الاجتماعية والمعتقدات الدينية تسهم في زيادة هذه الظاهرة، إذ تُورَّث الفكرة للأطفال منذ الصغر. على سبيل المثال، عندما يرث الذكر حظ الأنثيين، فإن ذلك يعطيه إحساسًا أكبر بالسلطة، والتي تتحكم بالعنف”.
تؤكد مارون أن هذه الكلمات توضح أن العنف ضد النساء لا ينبع فقط من غياب الحماية القانونية أو الإجراءات الأمنية الفعالة، بل يتأصل في نسيج اجتماعي يغذي التمييز، ويجعل المرأة مجرد “ملكية” للرجل، مما يبرر استخدام العنف كوسيلة للسيطرة.
وتضيف:” يمكننا فهم أن التغيير الحقيقي لا يبدأ فقط من إصلاح القوانين وتطبيقها فقط، بل من كسر هذه المعتقدات التي يتم تمريرها عبر الأجيال، وإعادة تشكيل المفاهيم المجتمعية حول دور المرأة ومكانتها. إذا كان الرجل لا يزال يُرى كوصي على المرأة، فما مدى فعالية القانون في حمايتها؟”.
إن العنف ضد النساء لا ينبع فقط من غياب الحماية القانونية أو الإجراءات الأمنية الفعالة، بل يتأصل في نسيج اجتماعي يغذي التمييز، ويجعل المرأة مجرد “ملكية” للرجل، مما يبرر استخدام العنف كوسيلة للسيطرة.
وتوافقها السيدة أناني بأن هناك عدة عوائق اجتماعية وقانونية تحول دون التبليغ عن العنف الجنسي في عام 2024. من هذه العوائق، الوصمة الاجتماعية التي تمنع الكثير من النساء من الإبلاغ، إضافة إلى عدم ثقتهن في إمكانية الحصول على نتيجة أو عقوبة جدية. كما أن البطء في تنفيذ وتطبيق القوانين وعدم دراية البعض لحقوقهن أو بإجراءات التبليغ المطلوبة قد يشكل عائق كبير. وأنه قد يتطلب الأمر استشارة قانونية متخصصة، وهي خدمة قد تكون مكلفة أو غير متاحة. ومن المشكلات الكبيرة نقص الحماية الفعالة للنساء بعد التبليغ، حيث قد يتعرضن لخطر الانتقام من المعتدين أو عائلاتهم، مما يزيد من ترددهن في الإبلاغ خوفًا من تفاقم الأوضاع.