مهمتنا تبدأ وتمضي بكم/ ن

ولادة مؤجلة في أرض محاصرة 

اشترك في

النشرة البريدية الأسبوعية: 

تم الاشتراك في النشرة بنجاح تم حدوث خطأ غير متوقع

تبعنا علي

وسائل التواصل الاجتماعي

تم حفظ المقال في المفضلة
تم نسخ الرابط بنجاح!
الخميس 29 مايو 202512:30 م

تأثير الحرب على غزة بعد 7 أكتوبر على النزعة الإنجابية لدى النساء المصريات: بين التضامن العاطفي والتحولات الاجتماعية.

في زمن الحرب، لا تُقصف المدن فقط، بل تُقصف معها الثقة بالحياة. يتجاوز الدمار المادي جدران البيوت ليصل إلى ما هو أعمق: معنى الوجود، واستمرار النسل، ومستقبل الأطفال الذين لم يولدوا بعد. وفي مشهد يتكرر من غزة يطفو سؤال جوهري على السطح: هل من الأخلاقي أن ننجب في عالم ينهار؟

تُظهر بعض الأصوات النسائية المتزايدة، خاصة بعد الحرب الأخيرة في غزة، تحولًا لافتًا تجاه خيار اللاإنجابية، لا بوصفه موقفًا أنانيًا أو فرديًا، بل كاستجابة نفسية – وربما روحية – لتجربة جماعية عميقة من الألم، والعجز، والخوف من تكرار المأساة على جيل جديد.

هذه الظاهرة، التي قد تبدو لأول وهلة انعكاسًا للصدمة فقط، تستحق تفكيكًا أعمق: ما الذي يدفع شابة في الخامسة والعشرين لأن تقول “لن ألد طفلًا قد يُدفن تحت أنقاض بيت لا أملك حمايته”؟ وكيف ينظر الطب النفسي لقرارات كهذه؟ وهل يمكن للمجتمع أن يعترف بأن رفض الإنجاب في زمن الحرب ليس دائمًا هروبًا من المسؤولية، بل أحيانًا أعلى درجات الشعور بها؟.

تُظهر بعض الأصوات النسائية المتزايدة، خاصة بعد الحرب الأخيرة في غزة، تحولًا لافتًا تجاه خيار اللاإنجابية، لا بوصفه موقفًا أنانيًا أو فرديًا، بل كاستجابة نفسية – وربما روحية – لتجربة جماعية عميقة من الألم

في هذا التقرير، ندمج بين الرؤية النفسية الحديثة، والتحليل الإحصائي، وشهادات حية من نساء مصريات جميعهن اختبرن الحرب أو جاورنها، لنرسم ملامح نزعة جديدة آخذة في التشكل: اللاإنجابية كفعل واعٍ، في وجه عالم يفرض الألم ويجرّم الحذر.

يشدد الطب النفسي الحديث على ضرورة التمييز بين قرار اللاإنجابية المبني على وعي وتخطيط شخصي مستقر، وبين القرار الناتج عن صدمة نفسية حادة. فبينما لا يُعتبر القرار الأول مرضيًا بأي شكل، فإن النوع الثاني – خاصة إن جاء نتيجة لقلق مرضي أو اكتئاب ناتج عن الحرب – يستدعي مراجعة ودعمًا نفسيًا، لا حكمًا أخلاقيًا أو لومًا اجتماعيًا. وهنا يتقاطع ذلك مع ما ورد في DSM-5، الذي يشير إلى أن التعرض للصدمات – كالحروب – قد يزيد من احتمالية اضطرابات مثل PTSD واضطراب القلق العام، والتي تؤثر على قدرة الأفراد على اتخاذ قرارات بعيدة المدى.

كانت غزة تضم أكثر من 50 ألف امرأة حامل عند اندلاع الحرب، وكثيرات منهن ولدن في ظروف كارثية وسط قصف وانقطاع الكهرباء ونقص في الدواء

وفقًا لتقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان، كانت غزة تضم أكثر من 50 ألف امرأة حامل عند اندلاع الحرب، وكثيرات منهن ولدن في ظروف كارثية وسط قصف وانقطاع الكهرباء ونقص في الدواء. شهد مستشفى الشفاء، وهو الأكبر في غزة، مشاهد مأساوية لحالات ولادة تمت دون مخدر أو معدات، فيما وُلد بعض الأطفال أيتامًا بعد استشهاد أمهاتهم أثناء الوضع.

أصوات من الداخل: كيف تشكّلت القناعات الفردية بعد الحرب؟

بين الحطام والقصف، وبين الصور المتكررة لأطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض، تشكّلت لدى عدد متزايد من النساء قناعات راسخة برفض الإنجاب، لا نتيجة رغبة آنية أو موقف عابر، بل كنتيجة لتجربة شعورية قاسية وصادمة، وضعت معنى الحياة ذاته موضع تساؤل.

آية صبري، فتاة مصرية  25 عامًا، تعبّر عن تحول موقفها من اللاإنجابية الاقتصادية إلى اللاإنجابية الأخلاقية والوجودية. تقول: “كنت بفكر في عدم الإنجاب من زمان، لأسباب اقتصادية وخوف من المسؤولية. لكن بعد الحرب، بقت الفكرة قرار. أنا مش مستعدة أجيب طفل للدنيا دي، وأنا شايفة إن ممكن يتعرض لأبشع شيء، حتى لو بنسبة بسيطة. مش مستعدة أخلق حد يتعذب، حتى لو اتربى على حب القضية.”

بالنسبة لـ أسماء بخيت 30 عاما، التي أنجبت طفلها الأول قبل الحرب بشهرين، فكانت التجربة الأمومية محمّلة بالسعادة في البداية، لكن الحرب غيّرت كل شيء. تقول:”بعد مشاهد مستشفى المعمداني، اللي شفته غير فيا كل حاجة. مش بس خوفي على ابني، لكن إحساسي إني مش هقدر أكرر تجربة زي دي تاني. استهداف الأطفال خلاني أحس إن الإنجاب مش بس قرار شخصي، دا كمان تحدي نفسي صعب اتحمله.”

هدير محمد، ذهبت إلى أقصى درجات الألم الوجودي، حيث لم تكتفِ برفض الإنجاب، بل عبّرت عن رغبة دفينة في عدم الوجود أصلًا، بسبب ما رأته من ظلم ووحشية. تقول: “أنا كل ما أشوف طفل دلوقتي بحس ناحيته بشفقة. مشاعري ناحية فكرة الحياة نفسها اتغيرت. اللي بيحب ولاده بجد مش هيجبهم يعيشوا دا كله. الحرب دي خلتني أتمنى إن مكنتش اتولدت.”

في مقابل هذا الرفض، تقدّم يسرى رؤية بديلة تقوم على الاحتضان والتبني. فهي لا ترفض الأمومة، لكنها ترفض “إنتاج” طفل جديد لعالم مليء بالخطر. تقول: “أنا مع فكرة الاحتضان، مش لازم أجيب طفل من بطني، في أطفال كتير محتاجين بيت آمن. بعد الحرب زاد إحساسي إن أهم حاجة نقدمها مش حياة جديدة، لكن حياة آمنة للي اتوجدوا بالفعل.”

في هذا السياق يرى الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، أن بعض هذه المواقف قد تنبع من طبيعة شخصية “وسواسية” تميل إلى التخطيط الزائد والخوف المفرط من المستقبل، ما يدفعها إلى تضخيم احتمالات الخطر. هؤلاء الأفراد قد يفسرون مشاهد الحرب بصورة كارثية تفوق الواقع، مما يؤدي إلى انهيار مناعتهم النفسية واتخاذ قرارات وجودية حادة، كرفض الإنجاب تمامًا.

وهو ما يتقاطع مع ما ورد في الأدبيات النفسية الحديثة مثل DSM-5، التي تشير إلى أن التعرض للصدمات – كالحروب – قد يزيد من احتمالية اضطرابات مثل PTSD واضطراب القلق العام، والتي تؤثر على قدرة الأفراد على اتخاذ قرارا  بعيدة المدى.

ما نشهده ليس فقط اضطرابًا نفسيًا فرديًا، بل تغيرًا ثقافيًا مرتبطًا بفقدان الثقة في الأنظمة، وغياب الأمان، وشعور متصاعد بالعجز أمام الظلم، كلها عوامل تؤسس لثقافة “لا إنجابية” جديدة

مضيفًا، “هذا التفكير ليس خاطئًا تمامًا، لكنه يعكس قراءة مشوهة للمستقبل. فحتى في أشد الأزمات، لا يمكن أن نُسقِط حتمية الخطر على كل زمان ومكان. العقل العصابي يُضخّم الألم ويتوقع الأسوأ دائمًا.”

لكن يمكننا أن نوسع تحليل الدكتور فرويز لنفهم كيف تتقاطع هذه القرارات مع تحولات كبرى في الوعي الجمعي. ما نشهده ليس فقط اضطرابًا نفسيًا فرديًا، بل تغيرًا ثقافيًا مرتبطًا بفقدان الثقة في الأنظمة، وغياب الأمان، وشعور متصاعد بالعجز أمام الظلم، كلها عوامل تؤسس لثقافة “لا إنجابية” جديدة. هذا الرفض إذًا ليس مجرد استجابة عاطفية أو هروب من المسؤولية، بل فعل احتجاجي رمزي يعكس انسحابًا من نظام يُنظر إليه كعاجز أو معادٍ للحياة نفسها.

ما بين القلق الوجودي والوعي الجمعي: قراءة نفسية أعمق

وتعزز الدكتورة هاجر رمضان، أخصائية الطب النفسي وعلاج الإدمان هذا الطرح، مؤكدة أن تزايد النزعة نحو اللا إنجابية قد يكون نتيجة لما يُعرف بـ”القلق الوجودي”، حيث تقول: “عندما لا أشعر بالأمان في هذا العالم، يصبح من المقلق التفكير في إنجاب طفل. كيف سأقوم بتربيته؟ ماذا لو تعرض للأذى؟”
  وتضيف: “هذه المشاعر تتفاقم في المجتمعات الأضعف والأكثر هشاشة، والتي تسود فيها ظروف من العنف، والفساد، وعدم الاستقرار، مما يزيد من الإحساس بعدم الأمان، ويعزز التردد في الإنجاب.”

وترى أن هناك فارقًا جوهريًا بين قرار نابع من وعي واستبصار، وآخر تحكمه الصدمة والانفعال اللحظي. وتوضح: “أحياناً يكون قرار عدم الإنجاب ناتجاً عن صدمة نفسية، وأحياناً يكون نابعاً من وعي عميق وتفكير منطقي. الفرق بين الحالتين يظهر في طبيعة القرار نفسه: هل هو متزن وهادئ أم حاد وانفعالي؟”
  “القرار الواعي برفض الإنجاب هو رد فعل طبيعي أحيانًا، خاصة حين يكون مبنيًا على تقييم منطقي للظروف المحيطة، بينما القرار الانفعالي قد يكون مؤشراً على اضطراب يحتاج إلى رعاية.”

وتتابع: “الاستجابة للكوارث تختلف من شخص لآخر. بعض الشخصيات لديها حساسية عالية للتجارب الصادمة، خصوصاً من يتمتعون بدرجات عالية من التعاطف، حيث يتأثرون بعمق بصدمات الآخرين وكأنها تجاربهم الخاصة، ما يجعلهم أكثر عرضة للاضطراب في مواجهة الكوارث.”

القرار الواعي برفض الإنجاب هو رد فعل طبيعي أحيانًا، خاصة حين يكون مبنيًا على تقييم منطقي للظروف المحيطة، بينما القرار الانفعالي قد يكون مؤشراً على اضطراب يحتاج إلى رعاية

وترى أن الأشخاص ذوي الحس العالي بالمسؤولية، أو من نشأوا في أسر مضطربة، يكونون أكثر عرضة للتفكير في خيار اللاإنجابية: “اللي عنده شعور عالي بالمسؤولية ممكن يشوف نفسه مش قادر يجيب طفل لعالم غير آمن، أو يحس إنه مش مؤهل لأنه نفسه لم يختبر نموذج عائلي مستقر. وفي مجتمعات تفتقر إلى دعم حقيقي للنساء، بتزيد هذه المخاوف.”

وتختتم: “في مجتمعات أكثر تعليمًا ودعمًا للنساء، نلاحظ أن الوعي بحجم قبح العالم أعلى، وبالتالي القرارات المتعلقة بالإنجاب تُتخذ بعد تفكير أعمق، وتكون أحيانًا شكلًا من أشكال المقاومة الواعية.”

ما بين الأمومة والاحتجاج

“في عالم لا يكفّ عن القصف، تصبح الأمومة شجاعة مرهقة، والإنجاب ليس امتدادًا للحياة، بل احتمالًا للموت. وبين طفل يُولد في نفق، وآخر يُنتشل من تحت الأنقاض، تقف النساء اليوم ليس فقط أمام سؤال: “هل أُنجب؟”، بل أمام سؤال أعمق: “هل لهذا العالم الحق أن يستقبل روحًا جديدة؟”

Subscribe
Notify of
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة:

اشترك في نشرتنا الشهرية

تابعونا ليصلكم/ن كل جديد!

انضموا إلى قناتنا على الواتساب لنشارككم أبرز المقالات والتحقيقات بالإضافة الى فرص تدريبية معمقة في عالم الصحافة والإعلام.

هل تريد تجربة أفضل؟

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة التصفح وتحليل حركة المرور وتقديم محتوى مخصص. يمكنك إدارة تفضيلاتك في أي وقت.

ملفات تعريف الارتباط الضرورية

ضرورية لعمل الموقع بشكل صحيح. لا يمكن تعطيلها.

ملفات تعريف الارتباط للتتبع

تُستخدم لمساعدتنا في تحسين تجربتك من خلال التحليلات والمحتوى المخصص.

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x