تحقيق – الجزء الأول
يعاني لبنان أزمات بيئية متفاقمة ناجمة عن سوء إدارة منهجي ومُتعمد لموارد الدولة، والتي تُشكل تهديدًا خطيرًا لمستقبل البلاد، وتُنذر بخطر جسيم يُهدد صحة سكانه. ويُعد الوقوف على مدى الإخفاقات التي مُني بها الملف البيئي في لبنان أمرًا بالغ الأهمية لفهم واقع وحقيقة التحديات التي يواجهها الشعب اللبناني ومعرفة أسبابها وحجم تداعياتها الكارثية.
أبرز الإخفاقات البيئية ..الأسباب والتداعيات
مع أن المشكلات البيئية في لبنان عمرها عقود من الزمن، إلا أن حدة التدهور البيئي ازدادت ازدياداً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، وأبرزها تلوث الهواء.باتت نسبة تلوث الهواء في لبنان مرتفعة للغاية، وتجاوزت المستويات المسموح بها وفق منظمة الصحة العالمية، حيث كشفت أحدث إحصائيات موقع Our World In Data عن حجم الانبعاثات السنوية لـ ثاني اكسيد الكربون، في لبنان والتي بلغت في 2022 نحو 23.90 مليون طن، في حين بلغت انبعاثات غازات الدفيئة، (ثاني اكسيد الكربون، الميثان، أكسيد النيتروجين، الأوزون، البريونات) نحو 30.2 مليون طن سنويا، وأشارت إلى أن قطاع الكهرباء هو المساهم الأكبر في هذه الانبعاثات.

حجم الانبعاثات السنوية لـ ثاني اكسيد الكربون، في لبنان بلغت في 2022 نحو 23.90 مليون طن
وقد أدت السياسات التقشفية التي أعقبت الانهيار الاقتصادي عام 2019 إلى تقليص ميزانية وزارة البيئة، مما أدى إلى إغلاق محطات رصد تلوث الهواء في جميع أنحاء لبنان، حسبما أكد الخبير البيئي ورئيس جمعية الأرض بول أبي راشد لمنصة صلة وصل.
وتأتي أبرز المصادر الرئيسة المسببة لتلوث الهواء، بسبب عدة عوامل مثل قطاع الكهرباء الذي يعتمد على محطات طاقة حرارية قديمة تستخدم زيت الوقود الثقيل غير المطابق للمواصفات القياسية، وعلى مولدات تعمل بالديزل الذي يُعد من أكثر أنواع الوقود الأحفوري تلويثا للهواء، حيث أصبح انقطاع التيار الكهربائي أزمة مزمنة لا سيما مع بدء الأزمة الاقتصادية وطول فترة الانقطاع التي قد تصل إلى 20 ساعة يوميا، وسط عجز الدولة عن توفير الكهرباء للمواطنين.
الإنبعاثات السامة زادت بنسبة 300% بعد أزمة الكهرباء
أصبح قطاع المولدات الكهربائية هو مصدر الطاقة البديل الذي يتمسك به اللبنانيون لسد الفجوة الكبيرة في إمدادات شركة كهرباء الدولة في ظل تزويدها المواطنين بطاقة متقطعة تتراوح بين ساعتين إلى أربع ساعات فقط في المتوسط. ومع أن الهدف من المولدات الكهربائية التي تعمل بالديزل هو توفير مصدر احتياطي للكهرباء في حالات الطوارئ، إلا أنها أصبحت في لبنان المصدر الأساسي للكهرباء، لتحل محل مؤسسة كهرباء لبنان حيث بلغ عددها في بيروت وحدها أكثر من 9 آلاف مولد، بينما يتجاوز الرقم 30 ألف مولد على مستوى البلاد، بحسب ما ورد في تقرير الوكالة الوطنية للإعلام في لبنان.
ويعود ذلك في الأساس إلى سوء إدارة الدولة لقطاع الطاقة وانتشار الفساد والإهمال، فخلال 30 عاما تقريبا، لم تُحسن السلطات اللبنانية إدارة شركة الكهرباء، مما تسبب في انهيار القطاع بالكامل وترك البلاد بلا كهرباء معظم أوقات اليوم.
وعليه، فإن هذا الانتشار الكبير والعشوائي للمولدات الكهربائية التي لا تستوفي معظمها الشروط البيئية في كل أرجاء لبنان سواء بين المنازل والمؤسسات، وفي الطرقات، وعلى أسطح العمارات، وعلى الشاحنات، وفي الساحات العامة، والمستشفيات، وأمام المحال التجارية، يُشكل خطرا كبيرا على البيئة والصحة العامة حيث إنها تضخ كميات هائلة من المواد الملوثة الخطيرة التي قد تصل إلى 40 ملوثا هوائيا ساما، بما في ذلك كثير من المواد المسببة للسرطان المعروفة أو المشتبه بها، كما ورد في تقرير لجمعية أمراض الصدر الأمريكية.
وقد حذر باحثون من الجامعة الأمريكية في بيروت من ارتفاع مستويات الانبعاثات السامة (انبعاثات أوكسيد الكربون، ثاني أوكسيد النيتروجين والكبريت، وجزيئيات الديزل) في لبنان بنسبة 300% عن مستويات ما قبل أزمة الكهرباء نتيجة الاعتماد المتزايد على المولدات لأوقات طويلة في أماكن منخفضة الارتفاع تفتقر إلى التهوية الكافية. ومع نقص الصيانة عنها وقلة استخدام فلاتر للتنقية، واستخدام أنواع من الديزل رديئة الجودة، يمكن أن يتضح مدى كثافة الانبعاثات والضرر الذي ينجم عن هذه المولدات.
ويعتمد قطاع النقل على أسطول السيارات القديمة ذات المحركات المتهالكة، فأعداد السيارات المستعملة والقديمة في لبنان في ازدياد لا سيما وأن الأزمة الاقتصادية حالت دون قدرة المواطنين على شراء سيارات جديدة، وتباعا يلجأ الكثير إلى استخدام المركبات التي تعمل بالديزل والدراجات النارية، مما يزيد الانبعاثات الضارة بالبيئة.
حذر باحثون من ارتفاع مستويات الانبعاثات السامةفي لبنان بنسبة 300% عن مستويات ما قبل أزمة الكهرباء نتيجة الاعتماد المتزايد على المولدات
ويشهد لبنان ازديادًا ملحوظًا في حركة المرور على الطرقات، يتراوح بين 15% و50% نتيجة الارتفاع الكبير في أعداد النازحين السوريين الذين لجؤوا إلى لبنان هربًا من الحرب الدائرة في بلادهم، وذلك وفق ما جاء في كتاب “تأثيرات الأزمة السورية والنزوح في لبنان“. وكان رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي قد أعلن الشهر الماضي أن عدد النازحين السوريين بات يناهز ثلث عدد عدد اللبنانيين، مما يفاقم الأزمات الداخلية، ويهلك البنى التحتية. هذا ويبلغ عدد اللاجئين السوريين في لبنان 1.8 مليون، منهم نحو 880 ألفا مسجّلون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بحسب تقديرات لبنانية.
أما في قطاع النفايات الذي يرتبط به الطمر والحرق، حيث تغرق شوارع المدن اللبنانية وشواطئها في أكوام هائلة من النفايات، وتنتشر مئات المكبات المؤقتة غير الصحية التي تحرق القمامة في العراء مُسببة انبعاثات سامة، وذلك بعدما توقفت البلديات عن الفرز والمعالجة، وعقب انتهاء عقود مطامر النفايات دون وجود خطط بديلة لإدارة هذا الملف في ظل غياب الإرادة السياسية، حيث فشلت مبادرات حكومية متعددة لحل هذه الأزمة من خلال إنشاء مطامر جديدة أو حتى نقل النفايات إلى خارج البلاد.
وتعد المنازل والأسواق والمؤسسات التجارية أهم مصادر النفايات البلدية الصلبة التي تهدد لبنان بالتصحر. وبحسب بيانات وزارة البيئة، فإن لبنان ينتج يوميا نحو 5514 طناً من النفايات، 99% منها تذهب نحو المكبات العشوائية والمطامر، وأكثر من 60% منها نفايات عضوية، وتقتصر المعالجة على 8% فقط من النفايات المنتجة مقارنة بنحو 77% في عام 2018 نتيجة توقف الجزء الأكبر من البنى التحتية لمعالجة النفايات.
أرقام صادمة
يتجاوز حاليا في لبنان تركيز المواد الجسيمية الدقيقة، وهي أصغر ملوثات الهواء، 2.2 ضعف قيمة إرشادات منظمة الصحة العالمية لجودة الهواء، وفقًا لتقرير شركة “IQAir” المعنية بمراقبة جودة الهواء في جميع أنحاء العالم. وتعد هذه الجسيمات الأكثر خطورة نظر لانتقالها عند استنشاقها في أنسجة الرئة، ويمكن أن تدخل في الدورة الدموية. وبحسب تقرير للبنك الدولي، تتسبب الجسيمات الدقيقة بقُطر 2.5 ميكرون في الإصابة بأمراض مثل انسداد شرايين القلب، والسكتة الدماغية، وسرطان الرئة، ومرض الانسداد الرئوي المزمن، والالتهاب الرئوي.
وقال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في تصريح له، إن:”السرطان هو واحدٌ من أكبر التحديات الصحية التي نواجهها في عصرنا الحالي. فإحصائيات المرض تظهر بشكلٍ واضح أن السرطان أصبح سبباً رئيسياً للوفيات في كل أنحاء العالم، وفي لبنان على نحو خاص “. كما يُقدم أطباء الأورام في المستشفيات اللبنانية نظرة أكثر قتامة، حيث يُقدرون الارتفاع في نسب الإصابة بالسرطان بأكثر من 30% خلال السنوات الأخيرة.
وبحسب أحدث الإحصائيات الصادرة عن الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، سجل لبنان 33.576 حالة إصابة بالسرطان في السنوات الخمس الماضية (2018-2022)، نحو 40% من هذه الحالات أي نحو 13000 حالة شُخِّصت في عام 2022 وحده، ويشكل سرطان الثدي والرئة النسبة الأكبر من حالات السرطان.

يواجه لبنان أزمة تلوث بحري ونهري متفاقمة تهدد البيئة والصحة العامة على السواء. وبحسب التقرير السنوي للمجلس الوطني للبحوث العلمية تحت عنوان “الواقع البيئي للشاطئ اللبناني” الصادر في 2023، تجاوزت نسبة التلوث في عينات المياه المأخوذة من مياه البحر 40%، حيث أثبتت نتائج المسحات إن نحو 15 موقعًا بحريًا من أصل 37 موقعًا على طول الساحل اللبناني من أقصى الشمال في عكار إلى أقصى الجنوب في الناقورة أُخِذت عينات منها طيلة العام على طول الشاطئ اللبناني تحتوي على مستويات تلوث مرتفعة، مما يجعل هذه الشواطئ تتدرج في تصنيفها ما بين “غير آمنة” إلى “ملوثة بشدة” وغير صالحة للسباحة.
هناك 40% عينات مياه البحر ملوثة و73% من عينات مياه الأنهار غير صالحة للري
وفي دراسة أجراها قسم علوم التغذية والأغذية، بكلية العلوم الزراعية والغذائية بالجامعة الأمريكية في بيروت ونُشرت في 2021، قُيِّمت جودة المياه في الأنهار الرئيسة في لبنان (14 نهرا)، والتوصل إلى تجاوز نسب تتراوح بين 48. 73٪ و 3. 61٪ و 81. 31٪ من العينات المعايير المقبولة للمياه المستخدمة في الري والحد المسموح به للأنشطة الترفيهية على التوالي.
وقد حذر تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” من أن صحة ملايين الأشخاص في لبنان، ولا سيما الأطفال، معرضة للخطر جراء انتشار الأمراض المنقولة بالمياه بما في ذلك الزحار والتهاب الكبد الوبائي وداء الليشمانيات، والتيفوئيد، التي تصيب الأطفال في المقام الأوّل.
أبرز أسباب تلوث المسطحات المائية
-الصرف الصحي غير المعالج: تُلقى كميات هائلة من مياه الصرف الصحي غير المعالجة “المبتذلة” في الأنهار والبحر، حيث إنه يتم معالجة 8% فقط من إجمالي مياه الصرف الصحي الناتجة، وأصبح نهر الليطاني -أكبر الأنهار اللبنانية- من أخطر الأنهار في العالم نتيجة تصريف مياه الصرف الصحي غير المعالجة، لا سيما وأنه يستقبل نحو 174 قناة صرف صحي، حيث تُشير التقديرات إلى تدفق نحو 45,،5 مليون متر مكعب من مياه الصرف المنزلية إلى حوض الليطاني العلوي، التي يتم تصريفها دون معالجة في النهر. كما تُشير التقديرات إلى أن نحو 65% من إجمالي مياه الصرف المنزلية الناتجة يتم تصريفها في البحر من خلال 53 نقطة تدفق خارجية على طول الساحل.
ويرجع ذلك في الأساس إلى تعطل معظم محطات تكرير مياه الصرف الصحي عن العمل. وعلى الرغم من كون نحو 60% من السكان متصلين بشبكة تجميع مياه الصرف الصحي، فإن أقل من 30% تصل فعلياً إلى أي من محطات المعالجة العاملة، وذلك نتيجة نقص اتصال شبكات الصرف الصحي الحالية ومحطات المعالجة التشغيلية، وتعتمد المناطق التي لا تغطيها شبكات الصرف الصحي على نحو أساسي على خزانات الصرف الصحي والحفر الامتصاصية التي تشكل أخطار تلوث عالية للمياه الجوفية بسبب التسرب.
ونقلا عن موقع Fanack Water، وُثِّق التلوث الميكروبيولوجي في 11 نهراً (نهرالعاصي، والكبير، والبارد، وعرقا، وأبو علي، وإبراهيم وأنطلياس، وبيروت، والدامور، والأولي، والليطاني)، الذي يرجع بشكلٍ أساسي إلى تصريف مياه الصرف الصحي المنزلية غير المعالجة، كما تم العثور على معادن ثقيلة مثل النحاس والزنك والسترونتيوم والكروم والنيكل في نهر الكبير في شمال لبنان.
-استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية: يقوم بعض المزارعين باستخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية دون تصريحها من قبل الهيئات الحكومية، وتصريفها في مياه الأنهار في لبنان، وذلك في ظل ضعف الرقابة الحكومية وتطبيق القوانين، وقلة الوعي بأخطار استخدام هذه المواد وتأثيراتها السلبية على الصحة، فضلا عن ارتفاع تكلفة المبيدات الحشرية والأسمدة المُرخصة مما يدفع بعض المزارعين إلى اللجوء إلى حلول رخيصة، وإن كانت مُضرة بالصحة، لزيادة الإنتاجية.
“مصطفى رعد: “المزارعون بأطراف لبنان يستخدمون المبيدات المُهربة
قال مصطفى رعد المستشار الإعلامي والبيئي في جمعية “نقطة فاصلة” اللبنانية في تصريح لمنصة “صلة وصل”، إن بعض المزارعين في مناطق بأطراف لبنان يستخدمون مبيدات غير مُصرح بها حيث يتم تهريبها عبر سوريا، موضحا أن هذه المبيدات تطول كثير من المنتجات الزراعية، بما في ذلك الفراولة وبعض أنواع البطيخ والملوخية، مما يهدد بأخطار صحية جسيمة.
إلقاء النفايات الصلبة: سبب آخر لمشكلة تلوث المياه في لبنان يتمثل في إلقاء النفايات الصناعية في مياه البحر. وقد أجرى البنك الدولي تقييماً تحت عنوان : “خط الأساس للنفايات البحرية في لبنان – 2021 لتحديد مصادر النفايات البحرية، كشف عن أن النفايات البحرية كانت موجودة في كل مكان على الشواطئ اللبنانية، وأن 76% من المواد التي جُمِعت كانت بلاستيكية. وأشارت المسوح إلى أن كثافة النفايات البحرية زادت بنسبة 37% بين أبريل/نيسان، وأكتوبر/تشرين الأول 2021 (من 7.9 إلى 10.4 عناصر/متر مربع).
وكشفت الدراسة النقاب عن أن أكثر من 82% من النفايات البحرية نشأت من مصادر برية، وشملت العناصر الأكثر شيوعاً المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد؛ مثل أغطية الزجاجات وزجاجات المرطبات وأعقاب السجائر والأكواب والشفاطات، التي غالباً ما يتركها مرتادو الشواطئ.
بالخلاصة يحتاج لبنان إلى موقف وطني مُوحد للسيطرة على الوضع البيئي المتردي، فكيف تغرق البيئة بخطايا الإهمال، ويغض الطرف عن الفساد الذي يُهدر الموارد، ويُدمر البيئة، التي نتوقع منها أن تعفو عنا، وتمنحنا ثرواتها وتُكافئنا بالحياة.
يتبع…