نحن لا ننجو فرادى
كان يومًا دامـيًا، بل الأكثر دموية في لبنان منذ الحرب الأهلية، لا يوازيه سوى الجرائم التالية التي وقعت في غزة، يوم الاثنين 23 سبتمبر 2024، توسعت الحرب الإسرائيلية على جنوب لبنان، والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع، وقُتل نحو 550 شخصًا، بينهم ما يزيد على 50 طفلًا، و98 امرأة، من بينهن الشابة آن، العاملة التي تركت بلادها للتغلب على صعوبة الحياة بالعمل الشاق. لم تنجُ آن من الغارات الإسرائيلية؛ قُتلت في غارة جوية قصفت المنزل محلّ عملها.
خلّفت الحرب دمارًا واسعًا في الأبنية والطرقات في العديد من المدن اللبنانية، مثل مدينة صور، وهو وضعٌ كانت له آثار بالغة على جميع المواطنين في لبنان، سواء اللبنانيين أو المهاجرين واللاجئين. واجه الجميع حصارًا تمثل في قطع الإمدادات الغذائية والمياه، وكل ما يندرج تحت الرعاية الصحية.
نحن لا ننجو فرادى، ولا نزهر إلا عندما نقاوم من أجل بعضنا البعض. هذه التضحيات لا بد أن تُقابل بالتزام جمعي بأخلاقيات العدالة والإنسانية والحرية
أصدر التحالف النسوي الإفريقي في السادس من أكتوبر 2024 بيانًا يعتبر نجاة وسلامة المجتمعات المهمّشة؛ مثل عاملات النظافة واللاجئين، جزءًا من سلامة ونجاة المجتمع، بل قضية أساسية في مواجهة العدوان الاستعماري الإسرائيلي ضد لبنان، كما وصف البيان. وقد اختُتم البيان بعبارات قوية ترسخ قانونًا ومنهجًا إنسانيًا عالميًا في قضايا المجتمعات وحقوق الإنسان الأممية في أوقات الأزمات والحروب:
“نحن لا ننجو فرادى، ولا نزهر إلا عندما نقاوم من أجل بعضنا البعض. هذه التضحيات لا بد أن تُقابل بالتزام جمعي بأخلاقيات العدالة والإنسانية والحرية، تتجاوز التعريفات والتراتبيات الاستعمارية التي تفصلها حسب مصالحها، وتنظر إلى سكان الجنوب بأنهم حيوانات بشرية، وخسائر جانبية، لا يحق لهم الأرض، أو الانتماء، ولا حق لهم في الوجود.”

المهاجر تحت العزل الإجباري
يعزل نظام العمل التعاقدي في لبنان المهاجرين عن السكان المحليين وكذلك عن أوطانهم. كما تفرض وكالات التوظيف رسومًا عالية على أصحاب العمل في لبنان لتشغيل المهاجرين، وحجب أصحاب العمل جوازات سفر العمال والعاملات في تعد واضح على حريتهم، وهو ما أدى إلى أوضاع صعبة متفاوتة خلال الحرب، ما بين نزوح أصحاب العمل دون توفير أي كفالة حقيقية أو حماية للعمالة، ومعهم الوثائق الرسمية خاصتهم أو حجبها عنهم ومنعهم من السفر.
وفي ظل تدني الأجور وظروف عمل تعتمد في الأساس على الاستغلال، لم يستطع قطاع كبير من العاملات مغادرة البلاد أو حجز تذكرة سفر بسبب التكاليف الباهظة.
الآلاف من العمال المهاجرين أوضاعهم في تدهور
بلغت خسائر لبنان في تلك الحرب نحو 9.4 مليار دولار، وبرغم جهود توفير المساعدات لتقليل حجم هذه الخسائر، لم تنجُ الفئات المهمّشة، إذ بقيت في عداد المنسيين سواء قبل الحرب أو خلالها أو بعدها. الآلاف من العمال المهاجرين واللاجئين ظلت أوضاعهم في تدهور.
.
تشير التقارير الدولية الرسمية إلى أن العمالة النسائية في لبنان تصل إلى نحو 250,000 عاملة من بلدان إفريقية وآسيوية مختلفة، أي حوالي 76% من العمال المهاجرين، معظمهم عاملات منازل بنسبة 99% من إجمالي هذه العمالة.
نرصد هنا جانبًا من الأضرار والانتهاكات التي وقعت على أكثر القطاعات تهميشًا قبل الحرب. كما تشير التقارير إلى أن عاملات النظافة تعرضن لاعتداءات جسدية وجنسية متكررة أثناء نومهن في الشوارع بلا مأوى، وكن من أكثر القطاعات تضررًا خلال الحرب اللبنانية-الإسرائيلية وما خلّفته من آثار.
أن العمالة النسائية في لبنان تصل إلى نحو 250,000 عاملة من بلدان إفريقية وآسيوية مختلفة، أي حوالي 76% من العمال المهاجرين، معظمهم عاملات منازل بنسبة 99%
تؤكد ليلى عيسى، ناشطة ومنسقة مجتمعية في منظمة “كفى”، أن النساء العاملات بالمنازل هربن من المناطق المهددة إلى مناطق أخرى، وهنّ فرادى، وحيدات، بلا داعم أو سند، لأنهن مهاجرات في الأصل، فلم يجدن بيوتًا أو مأوى.
وذلك جعلهن تحت خطر التشرد، إذ ظللن في الشوارع بأعداد كبيرة.
وكانت المشكلة الأكبر بعد هروبهن من أماكن القصف إلى الشوارع أنهن كلما ذهبن إلى مكان يتم طردهن منه لكونهن مهاجرات، مما شكل معاناة للجميع. فكانت أهم المطالب توفير المأوى للعاملات.
وبرغم أن بعض السفارات وفّرت المأوى، إلا أنه لم يكن مجهزًا بشكل كافٍ، بل وتطلب شروطًا صعبة للغاية، سواء للمهاجرين النظاميين أو غير النظاميين، منها عدم الخروج أو التقييد الشديد على التنقل، أو إيواء العاملة بمفردها، رغم أن العديد منهن كنّ أمهات ولديهن أبناء، لذلك فضّلن الوجود في الشارع أو خيام وشوادر أو بنايات مهجورة في ظل ظروف شديدة الصعوبة، منها انتشار الأمراض، وإصابة العديد منهن بأمراض جلدية وصلت إلى حد الإصابة بالجرب، نتيجة نقص أدوات النظافة والمياه والدواء والرعاية الصحية.
تشير التقديرات الرسمية اللبنانية إلى أن العمال الأجانب ومعظمهم من مصر، سريلانكا، إثيوبيا، الفلبين، وكينيا يشكلون 30% من القوى العاملة الرسمية في البلاد، ويتوزعون في القطاعين المحلي والخدمي.
بلغ عدد النساء الحوامل في لبنان أثناء الحرب حوالي 11,600 امرأة، كانت 4,000 سيدة منهن في الثلث الأخير من الحمل، كما أفاد تقرير للأمم المتحدة لقضايا المرأة أن عدد النساء النازحات المعيلات لأسرهن قد بلغ 12,000 امرأة خلال تلك الفترة.
تضيف عيسى:
“بالفعل، تعرضت الكثيرات منهن لانتهاكات بدنية وجنسية، تحرشات جسدية ولفظية، وتنمّر وسخرية وإهانة، وعنصرية، وبصق بهدف التحقير، المصاحب لطردهن من أماكن إيوائهن. لقد شهدت بنفسي ما لا يقل عن ثلاث حالات لنساء تعرضن لاعتداءات وتحرشات.”
وتؤكد عيسى على أن الكثير من العاملات واجهن أضرارًا جسيمة بفقدان جميع متعلقاتهن وكذلك بيوتهن، فهناك بعض العاملات المستقرات في لبنان منذ فترات طويلة تزيد على عشرة أعوام، وأحيانًا عشرين عامًا، فقدن كل شيء جراء الحرب.
وأن لا شك أن هناك عمالة منزلية من النساء اللبنانيات، لكن مشاكلهن خلال فترة الحرب تعلقت بالاحتياج المالي وعدم توفير الطعام لهن ولأطفالهن. أما المهاجرات، فكانت جميع هذه الاحتياجات تدفعهن للعمل حتى أثناء الحرب، ولو لساعات قليلة في النهار لتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات.
بل إن صعوبة الأحوال المعيشية التي اضطرتهم أصلًا إلى ترك بلادهم لتوفير مصادر دخل لأسرهم، هي ما دفعتهم للبقاء تحت خط النار في الحرب، رغم شدة هذه الظروف، حتى لا يعودوا إلى ديارهم ويهدموا آمال عائلاتهم.
تخلي الدولة عن دورها
لم تقدّم الدولة أي دعم للعاملات، ولم تتحرك بأي شكل. كانت جميع المبادرات من منظمات المجتمع المدني، التي استطاعت توفير بعض المساحات للتدفئة وأغطية، لكن ذلك لم يكن كافيًا، لأن هذه منظمات صغيرة، وأن شدة القصف وصعوبة، بل استحالة، التنقل بين المدن كان سببًا في عدم الاستجابة للعديد من الاستغاثات، بحسب ما أفادت السيدة ليلى.

للعاملات المهاجرات في لبنان مساعٍ متميزة في تكوين تحالفات مثل “نحن المهاجرات”، وتجمّعات وروابط فيما بينهن جعلتهن خلال الحرب يحاولن تنظيم مساعدات قدر المستطاع، من خلال النداءات والاستغاثات التي كان لها بعض الأثر الإيجابي في توفير بعض الطعام. لكن نقص الغذاء في فترة الحرب ترك آثارًا سلبية وضعفًا على العاملات وأطفالهن.
قوانين تكرّس للفساد والاستغلال والتبعية
قانون احترام حقوق العمالة المنزلية في حاجة إلى تدابير تشريعية وسياسية جوهرية. فبرغم دخول النساء إلى لبنان بصفة عاملات، إلا أن قانون الحماية العمالية لا يُطبق عليهن وفقًا للمادة 7 من قانون العمل، التي تنص على:
“يجب على الأجير التقيّد بتعليمات مدير المؤسسة ورؤسائه المباشرين، الخطية منها والشفهية، وتنفيذها دون أن يكون له حق المناقشة في صيغة هذه التعليمات أو أسبابها أو مناسبتها. وله، في حال وجود خطأ في التعليمات أو مخالفة لهذا النظام أو لمصلحة المؤسسة بصورة واضحة وصريحة، أن يطلب إلى مصدرها تأكيدها خطيًا قبل تنفيذها.”
كما أن قضية الكفيل أو نظام الكفالة، الذي يربط الإقامة القانونية للعامل بالعلاقة التعاقدية مع صاحب العمل، يجعل العامل إذا انتهت العلاقة، حتى مع وجود إساءة، يتحول إلى وضعية غير قانونية. وهذا ما يجبر العامل على تحمّل أصعب ظروف العمل، التي تقع أحيانًا تحت الاستغلال والانتهاكات.
وهذا النظام يواجه رفضًا وتاريخًا طويلًا من التحركات والنضال من أجل إسقاطه أو تفكيكه، حيث تحتفظ الإدارة المركزية للإحصاء في لبنان بالسجل الرسمي الوحيد للعمال المهاجرين، والمتمثل في تصاريح العمل.
تشير السيدة ليلى إلى أن عاملات النظافة في الأصل يعانين من أوضاع سيئة للغاية في لبنان، لأنهن يعملن تحت نظام الكفالة، وهن كنساء تحت هذا النظام داخل بيت الكفيل، ما يجعلهن معرضات لأسوأ أنواع الانتهاكات والاستغلال والممارسات المسيئة. ويتضاعف ذلك بأشكال متنوعة في ظروف الحرب.
أن عاملات النظافة في الأصل يعانين من أوضاع سيئة للغاية في لبنان، لأنهن يعملن تحت نظام الكفالة، وهن كنساء تحت هذا النظام داخل بيت الكفيل، ما يجعلهن معرضات لأسوأ أنواع الانتهاكات والاستغلال والممارسات المسيئة.
لكن النساء العاملات على وعي كبير بمطالبهن وقضيتهن، كما أنهن ناشطات لتحسين أوضاعهن الاجتماعية والمادية والقانونية، ويسعين لمحاولات متعددة لإلغاء نظام الكفيل.
تضيف عيسى: “نحن أيضًا كمنظمات مجتمع مدني نكثف التحركات والمطالبات لكي يكون العمل المنزلي تحت قانون العمل، أي أن يُعترف به كوظيفة مستقلة، لأنه حتى الآن لا يُصنف العمل المنزلي بأنه عمل أو وظيفة، بل يندرج في العرف العام أو المفهوم الجمعي باعتباره “دور المرأة الطبيعي. ولدينا الكثير من العائلات لا تدفع للعاملة أجرًا أو مقابلًا ماديًا نظير العمل، بل يعتبرون العمل نظير الطعام وإقامة العاملة لديهم”.
تحتاج العاملات إلى نقابة لضمان حقوقهن، والحفاظ على دورهن الفعال في المجتمع، واحترام هذا العمل الدقيق والشاق، واحترام العاملات بالضرورة.
مقال اكثر من رائع