عقب انتهاء وقف إطلاق النار بين لبنان والعدوان الإسرائيلي (2023–2025)، جُرح الاقتصاد اللبناني بنحو 14 مليار دولار كخسائر مباشرة، مع تقديرات تكلفة الإعمار بنحو 11 مليار دولار. وتراجع الإنتاج الزراعي نتيجة القصف والألغام، مع خسارة في الإنتاج الزراعي تُقدّر بنحو 80% إضافية ما بعد السنة الخامسة من الحرب، بسبب الألغام غير المنفجرة وذلك بحسب تقديرات البنك الدولي.
التراب فقد الرّوح
“قبل الحرب، كانت أراضينا تُعطي خيرها. كنت أزرع تبغًا وزيتونًا وخضارًا موسمية، والبركة كانت موجودة. لكن بعد العدوان الإسرائيلي الأخير، تغيّر كل شيء. وحسّيت إنو التراب صار ناشف أكتر، وكأنو فقد الروح”.
يقول حسين الملاط، وهو فلاح من بلدة عيترون في جنوب لبنان، بعد أن تعرّضت أراضيه بشكلٍ مباشر للضرر: “سبّبت القنابل التي تفجّرت، سيّما القنابل العنقودية، أضرارًا هائلة على منتجاتنا الزراعية، حتى بعد انتهاء الحرب. وكثيرة هي الحقول التي لم نستطع أن نصل إليها بسبب الألغام والبقايا المتفجرة. وأنا شخصيًا خسرت أكثر من 5 دونمات، وكل تعبي الذي سعيتُ من أجله طوال سنيني تبخّر.
لقد تضررت أشجار الزيتون بالكامل، والبعض منها لم أرَ أثره حتى، بسبب القصف المستمر في المنطقة. وللأسف، خسرتُ محاصيل مثل الزهرا، والكرنب، والتفاح، أي ما يقارب الـ10,000 دولار كخسائر مباشرة. ويوم عدنا إلى الزراعة، المحاصيل لم تعد كما كانت سابقًا.
التبغ أضحى ضعيفًا، الزيتون قلّ إنتاجه، وحتى البندورة والباذنجان لم تعودا تثمران كما في السابق. أمّا المواد التي تفتّتت في الأرض، فأثّرت على تركيبة التربة. لذلك، حاولنا استخدام السماد العضوي لتتغذى الأرض، لكنّ النتائج بطيئة إلى حدّ ما”.
ويلفت إلى أنّ “هناك مزارعين تركوا الزراعة كليًا وهاجروا، ونحن صامدون، رغم أننا على دراية بأنّ أراضينا لن تعود إلى طبيعتها بعد اليوم”.
دور المبادرات الرسمية والدولية لقياس ومعالجة التلوث البيئي
الناشطة والصحافية البيئية فاديا جمعة، تقول لمنصّة صلة وصل: “توجد مبادرات حاليًا، لكنها لا تزال في مرحلةٍ مبكرة. الاعتماد حاليًا يكون على صور الأقمار الصناعية وبعض المسوح الميدانية الجزئية، في ظل غياب برامج رسمية واسعة النطاق نتيجة التحديات الأمنية. والتحاليل المخبرية المنجزة تؤكد وجود تلوث خطير، بحسب الجامعة الأميركية في بيروت وجامعات لبنانية أخرى، وتشير إلى وجود ملوّثات خطيرة مثل الفوسفور الأبيض والمعادن الثقيلة”.
“لا شكّ أن البعد الزمني يجعل الناس يظنون أن الخطر “انتهى”، بينما التلوث البيئي قد يكون طويل الأمد وخفيًا. والزراعة أولى القطاعات التي تأذت بسبب الحرب، سيّما جنوب لبنان”، هكذا تؤكد الناشطة والصحافية ناديا جمعة عمّا يحصل من تلوّث صحي وبيئي وتأثيره على المدى البعيد.
وتؤكد جمعة أنّ “وزارة البيئة تستعد لإطلاق حملات فحص ومعالجة، لكنها تنتظر تحسّن الأوضاع الأمنية لتتمكن من المباشرة بالتنفيذ. ورغم تراجع وتيرة القصف في الجنوب، إلا أن التهديد الحقيقي لم ينتهِ بعد. فالتلوث البيئي الناتج عن الحرب يبقى خطرًا صامتًا طويل الأمد، يُهدد التربة والمياه والنظام الزراعي بشكلٍ مباشر.
وتُعدّ الزراعة من أكثر القطاعات تضررًا في جنوب لبنان.
فقد كشفت تحاليل مخبرية محلية، بتاريخ 26 كانون الثاني عام 2024، أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت بالتعاون مع وزارة الزراعة، عن مستويات مقلقة من التلوث في التربة، شملت معادن ثقيلة مثل الرصاص والباريوم والفوسفورالأبيض.
بعض العينات أظهرت تركيزات وصلت إلى 97,000 ملغ/كغ، أي ما يفوق الحدّ المسموح به عالميًا (800 ملغ/كغ) بأكثر من 120 مرة”.
وفي السياق نفسه، يشير المجلس الوطني للبحوث العلمية (CNRS) إلى أنّ “استخدام الجيش الإسرائيلي للفوسفور الأبيض أدّى إلى احتراق آلاف الدونمات الزراعية، وتلوّث الهواء والتربة، وقدّر المجلس الخسائر البيئية المباشرة بأكثر من 214 مليون دولار”.
وفي مواجهة هذا الواقع الصعب، بدأت منظمة CEOBS (مرصد الصراع والبيئة)، بالتعاون مع منظمة “مساعدة الشعب النرويجية”، تنفيذ عمليات مسح أولية باستخدام صور الأقمار الصناعية، لتحديد حجم الأضرار البيئية ومواقع البنية التحتية الزراعية المتأثرة، وذلك خلال الفترة الممتدة من تشرين الأول 2023 إلى كانون الأول 2024.
في الوقت نفسه، يجمع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) تقارير ميدانية بالتنسيق مع البلديات والمنظمات البيئية في الجنوب، تمهيدًا لعرضها على الجهات المانحة، بهدف تحويلها إلى مشاريع بيئية ملموسة. أمّا وزارة البيئة اللبنانية، فرغم اعترافها بخطورة التلوث، إلا أنها لم تطلق بعد أي خطة ميدانية شاملة لجمع العينات أو إجراء الفحوصات، بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة.
وقد أعلن مسؤولو الوزارة أنهم يعملون على إعداد “برنامج وطني للاستصلاح البيئي” يشمل تأهيل التربة، فحص المياه الجوفية، وإصلاح الشبكات الزراعية المتضررة، فور توقف العمليات العسكرية.
جمعة تؤكّد أنه “ومع استمرار غياب خطة طارئة شاملة من الدولة، تتزايد المخاطر على الأمن الغذائي والمائي في الجنوب، مما يُنذر بتدهور طويل الأمد قد يمتد لعقود.
وبينما بدأت بعض المنظمات الدولية بإجراء مسوحات أولية، تبقى الحاجة ملحّة إلى خطوات علمية وميدانية تشمل تحليل التربة، تقييم إمكانيات الاستصلاح، وتحذير المزارعين من الاستخدام العشوائي للأراضي، لضمان التعافي البيئي وتفادي أزمة زراعية واجتماعية أوسع”.
البقاع تُداوي جراح الجنوب
وفي المقابل، يشير رئيس تجمّع مزارعي وفلاحي البقاع، إبراهيم الترشيشي، إلى أنّ “أراضي البقاع الشمالي بدأت تستعيد الحياة مع تمدّد زراعة الزيتون بوتيرةٍ متسارعة. فقد شكّل تراجع الإنتاج في الجنوب دافعًا للمزارعين في البقاع لاستغلال الأراضي المهملة، وتحويلها إلى بساتين زيتون، في مشهدٍ يعكس قدرة الطبيعة على التجدّد رغم كل الخسائر”.
ويضيف أنّ “المزارع اللبناني لم يعد باستطاعته الاعتناء بأرضه كما في السابق، فقسم كبير من الأشجار قد احترق وأتلف خلال الحرب، سيّما في منطقة جنوب لبنان”.
ويؤكد أنّ “شجرة الزيتون هي الشجرة الأولى التي تعرضت للتلف والقطع والتلوث. وهذا ما زاد لدى المزارع البقاعي الرغبة في الاعتناء بهذه الشجرة المثمرة والجبّارة، سيّما في الهرمل ورأس بعلبك وكل هذه المناطق البعلية التي تتمتع بندرة في المياه”.