طال القصف الإسرائيلي خلال الحرب على لبنان التي بدأت في الأول من شهر تشرين الأول٢٠٢٤ مدينة صور بما فيها الأبنية الأثرية.
أسئلة تطرح نفسها حول حجم الأضرار التي خلفها الدمار الهائل في أنحاء المدينة الأثرية، فآثار صور لا تقتصر على المرئي منها من معالم إنما أيضًا على ما احتضنه ترابها من آثار قيد الاستكشاف، مدفونة تحت أرضها التي عبرتها شعوب وشعوب.
مناشدات نددت بخراب المدينة وما أصابها من أضرار، فما هو واقع حماية المعالم الأثرية في صور انطلاقًا من الحماية الدولية المعززة التي حظيت بها صور، وما الخطوات التي يسير بها لبنان على درب هذه الحماية؟ تبلغ مساحة المواقع الأثرية في صور ما يزيد عن ٥٠٠ ألف متر مربع، إذ إن تاريخ المدينة يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد.
كثيرة هي المواقع التي تحمل تاريخ حضارات عدة، كالملعب الروماني الكبير الذي يتسع لآلاف المتفرجين، قوس النصر الذي بني من الحجر الرملي ويتضمن أعمدة منحوتة و برجان كبيران. إلى جانب الأبنية العديدة التي تميزت بطابعها الهندسي مثل كاتدرائية صور التي بناها الصليبيون.
معالم أثرية في عمق التاريخ
تتعدد المعالم الأثرية في صور التي تكتسب أهمية تاريخية لما تجسده من حضارات، في حديث لـ “صلة وصل” قال الدكتور روني خليل أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية “إنه من مدينة صور خرجت اليسا وأسطورتها، فقد كانت نموذجًا من الممالك الدول، فهناك قلعة بحرية، ملاعب وغيرها من الآثار الرومانية إضافة إلى الفينيقية”.
تبلغ مساحةالمواقع الأثرية في صور ما يزيد عن ٥٠٠ ألف متر مربع، إذ إن تاريخ المدينة يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد
وأشار دكتور خليل إلى وجود الهيبودروم وهو من أبرز المعالم الرومانية، معددًا بعض هذه الآثار مثل الشوارع المرصوفة بالفسيفساء، الحمامات العامة، والأماكن الرياضية التي كانت تجري فيها مباريات في المبارزة وسباق الخيل، إضافة إلى بقايا أثرية لجهة البحر مثل قوس النصر، ميدان سبق الخيل. مع وجود آثار بيزنطية وعثمانية وإسلامية أيضا.
وأضاف: “أن مدينة صور تعد مدينة كوزموبوليتية إذ إنها تضم معالم تاريخية دينية تعود إلى الطوائف الإسلامية والمسيحية وهي اليوم معلم سياحي مهم جدًا نظرًا إلى موقعها ونظافة شطها وسوقها التجاري ومحميتها الطبيعية إضافة إلى حسن استقبال أهلها”.
وبحسب المعلومات التي أكدها الدكتور خليل أن الساحل اللبناني قد تعرض لتغيرات جيولوجية وجغرافية بالنسبة لحركة الأرض والصفائح والزلازل كما أن ارتفاع المد والجزر عن المستوى الذي نعرفه جميعها عوامل هدمت أو طمست بعض الآثار التي يوجد قسمًا منها تحت الأرض. ويؤكد وجود دراسات تشير إلى أن الساحل اللبناني كان محورًا للحياة الحضارية في الفترة الفينيقية وغيرها، ويعتقد بأن هناك طبقات ما زالت حتى اليوم موجودة تحت الأرض وهو أمر بديهي وشبه مؤكد حيث نجد التنقيبات تبرز وجود فسيفساء وجدرانيات وغيرها من الأمور.
أضرار فوق وتحت الارض
“لا يوجد مسح شامل حتى الآن، إذ إنّنا لم نخرج من الحرب من فترة طويلة كما أن الأضرار لا تشمل ما هو مدمر فقط بل قد يكون للمحيط تأثير على المباني الأثرية بمعنى أنه إذا وجدت أبنية مهدمة موجودة بجانب معلم أثري قد يتسبب ذلك بخلل يصيب كل المعلم الأثري” يقول خليل .إضافة إلى أن بعض اللقى الأثرية والأواني اندثرت وتحطمت وأصابها الأذى في هذه الحرب،
تداعيات هذه المواد وتاثيراتها على المباني الأثرية
في حديث لمنصة صلة وصل مع الدكتورة نجاة صليبا عون، نائبة في البرلمان اللبناني و متخصّصة في الكيمياء التحليلية والبحث في كيمياء الغلاف الجوي.
قالت :”إن الانبعاثات في الجو والدخان الأسود الذي نتج عن القصف، انتج ما يعرف بثاني أوكسيد النيتروجين وثاني أوكسيد الكبريت NO2 وSO2 وعندما وجوده بكميات كبيرة يؤثر على الأمطار ويجعلها حمضية مما يجعلها تذوّب الحجارة الأثرية وتغير معالمها”. وتضيف صليبا أن ما كنا نراه من دخان أسود وحرائق خلال الحرب يخلق انبعاثات كبيرة وخطيرة، لكن بما أن هذه الانبعاثات لم تستمر لفترة طويلة، لا يمكننا القول انها ستؤثر كثيرا
لا يوجد مسح شامل حتى الآن، و الأضرار لا تشمل ما هو مدمر فقط بل قد يكون للمحيط تأثير على المباني الأثرية
وفي هذا السياق يقول الدكتور طوني نمر الخبير في البيولوجيا والزلازل لمنصة صلة وصل، أن الارتجاجات حينما تكون قريبة جدًا من أماكن وجود الفوالق قد تؤثر عليها خاصّة إذا كانت عنيفة وهو ما حدث في جنوب لبنان ٢٦ تشرين الأول عندما حصلت تفجيرات ضخمة في منطقة العديسة، إذ تبعها هزات أرضية استحدثتها هذه التفجيرات.
وبالنسبة لحركة الصفائح وتأثيرها على المباني الأثرية فيؤكد نمر أن تحرك الصفائح على الفوالق يحدث هزات ارضية وزلازل. هذه الهزات الأرضية والزلازل تؤثر على كل المباني، الأثرية منها وغير الأثرية.
أما بالنسبة لتأثير هذه الارتجاجات على الآثار المدفونة تحت الأرض فيؤكد نمر مجددًا أنه ومن الناحية المبدئية لا تأثير لحركة الفوالق إلا إذا مر الفالق في مكان وجود هذه الآثار لحظة حدوث الزلزال حيث تنكسرالآثار مع انكسار الأرض. وإذا وجدت بعيدة عن مكان وجود الفالق وتحركت الأرض، فإن كل الموجات الزلزالية التي تحدث عندها لا تؤثر على وجود الآثار لأنها أصلًا مطمورة وهذا الطمر يقوم بحمايتها.
الحماية القانونية الدولية للمواقع الاثرية
أدرج الكثير من المواقع الأثرية ومنها تلك الموجودة في مدينة صور ضمن قائمة الممتلكات الثقافية المشمولة بالحماية المعززة باعتبارها جزءًا من الثرات العالمي والذي يستتبع حسب اتفاقية لاهاي ١٩٥٤والبروتوكولات اللاحقة تقديم مساعدة تقنية ومالية لتعزيز هذه الحماية على أرض الواقع وماهية الخطوات التي يتم المضي بها في هذا الإطار.
أدرجت المواقع الأثرية الموجودة في مدينة صور ضمن قائمة الممتلكات الثقافية المشمولة بالحماية المعززة باعتبارها جزءًا من الثرات العالمي
يؤكد الدكتور سعيد مالك الخبيرالدستوري والقانوني لصلة وصل:”أنه من الثابت والأكيد أن المواقع الأثرية هي محمية في القانون الدولي الإنساني وأيضًا بموجب المذكرة بين الصليب الأحمر ومنظمة اليونسكو وكذلك في اتفاقية لاهاي والبروتوكول الاول والثاني التابعين لهذه الاتفاقية، إضافة إلى ذكرها في بروتوكول جنيف ١٩٧٧ في المادة ٥٣ منه وكذلك في بروتوكول جنيف الثاني المادة ١٦ منه، وكذلك في المادة الثامنة من نظام المحكمة الجنائية الدولية روما.
ما هي الخطوات التي يمكن المضي بها عند وجود اعتداء على المعالم الأثرية
يقول الدكتور مالك إنه يمكن تقديم شكوى أصولا أي بواسطة القنوات الدبلوماسية المعنية حيث يكون هناك قرار حكومي يبلغ إلى وزارة الخارجية لتقديم هذه الشكوى أمام منظمة اليونسكو.وتقدم هذه الشكوى أمام منظمة الصليب الأحمر أو منظمة اليونسكو، وتحال إلى مجلس الأمن حيث يصار إلى ملاحقة الفاعلين وإحالتهم إلى المحكمة الجنائية الدولية من أجل إنزال العقوبة اللازمة بهم.
مسؤوليات وخطوات لبنان
انطلاقًا من الرابطة السبببية بين الفعل والضرر ومسؤولية التعويض، يجد الدكتور مالك أن الأضرار التي تلحق بأي مبنى أثري نتيجة اعتداء ويصار إلى اكتشاف هذا الضرر في مرحلة لاحقة. أن الفاعل يكون مسؤولًا عن الأضرار الحالية وكذلك المستقبلية، في حال تبين أن هناك علاقة سلبية بين الفعل والضرر حيث يفترض على المحكمة الناظرة في النزاع القيام بما يلزم من إجراءات وإلحاق العقوبة بالفاعل.
الخطوات التي قام بها لبنان ضمن إطار الحماية القانونية للآثار بعد الحرب
قامت الدكتورة نجاة صليبا والنقيب ملحم خلف بكتابة رسالة إلى اليونسكو حيث تم من خلالها الطلب من اليونسكو أن تقوم بعقد اجتماع استثنائي، وهو ما حصل في ١٨ تشرين الثاني ٢٠٢٤ من أجل الضغط على المجتمع الدولي لكي لا تقوم إسرائيل بضرب المواقع الأثرية، لأن هذه المواقع ليست ملك دولة إنما ملك الإنسانية وأكّدت: “تم دعم هذه الرسالة عبر توقيع ١٠٠ مئة نائب من المجلس النيابي نتج عنه إقرار اليونسكو في اجتماعها الاستثنائي حماية المواقع الأثرية الموجودة في لبنان”.
وتؤكد صليبا على استمرار متابعتها للموضوع مع كوستانزا فارينا، مديرة اليونسكو للشرق الأوسط، التي يقع مقرها في لبنان والتي تقوم بإجراء جولات على المواقع الأثرية لتقييم حجم الأضرار على أن يتم القيام بما يلزم لجهة المحافظة على الموجود من هذه الآثار وترميم ما تصدع منها.
ويقول الدكتور مالك “إن هذه الشكوى ليست محصورة بالحكومة وبأن الطلب كما تم تقديمه هو في محله الصحيح وأنه يسمح لمنظمة اليونسكو أن تتحرك فورًا استنادا إلى هذا الإخبار.
أخيرًا يبقى السؤال حول مدى وجود دراسات وخطط وبحوث عن وجود آثار مدفونة تحت الأرض للعمل على حمايتها من أي ضرر محتمل قد يطالها كونها جزءًا من التراث الإنساني الذي يفترض البحث عنه والمحافظة عليه.