مهمتنا تبدأ وتمضي بكم/ ن

صانعو المطر في المغرب

اشترك في

النشرة البريدية الأسبوعية: 

تم الاشتراك في النشرة بنجاح تم حدوث خطأ غير متوقع

تبعنا علي

وسائل التواصل الاجتماعي

تم حفظ المقال في المفضلة
تم نسخ الرابط بنجاح!
الخميس 17 يوليو 202510:14 م

تم إنتاج هذه المقالة كجزء من النسخة الأولى من زمالة أمواج الإعلامية في عام 2025. وقد نُشرت المقالة في الأصل باللغة الإنجليزية من قبل أمواج.

فوضى الجفاف والفيضانات في المغرب تغذّي عاصفة من نظريات المؤامرة حول الاستمطار الصناعي. في قرية أونين الصغيرة، الواقعة عالياً في جبال الأطلس الأوسط بالمغرب، تُعتَبَر السماء كل شيء، سقفاً، وإلهاً، ووسيطاً للحظ. لأجيال، اعتاد السكان قراءة الغيوم كما لو كانت نذراً: بطنٌ داكن، رياح متقلّبة، ورائحة ترابٍ مبلل. جميعها إشارات على أن المطر قد يهطل أخيراً.

لكن في السنوات الأخيرة، أصبحت السماء أكثر تحفظاً. بات المطر غير منتظم، يغرينا في أكتوبر، ويختفي في مارس، ثم يعود على شكل سيول غاضبة تنحت الأخاديد في أرضٍ عطشى.

في يوم ثلاثاء من أوائل سبتمبر 2024، وبعد أسبوع من شمسٍ حارقة، اجتاحت أمطار لم تشهدها المنطقة منذ سنوات جبال الأطلس، التي تشكّل العمود الفقري لشمال غرب إفريقيا، فاصلةً بين الصحراء والبحر. على ممر ضيّق قرب الطريق المؤدي إلى مراكش، توقّفت السيارات، وإطاراتها ترتجف على حافة هاوية وسط هطولٍ مفاجئ للأمطار. خرج السائقون بحذر، ينبشون الركام بأيديهم العارية ويكدّسون الحجارة لصنع ممرّ وسط انهيارٍ أرضي، وهم يتمتمون بأدعية خافتة.

بات المطر غير منتظم، يغرينا في أكتوبر، ويختفي في مارس، ثم يعود على شكل سيول غاضبة تنحت الأخاديد في أرضٍ عطشى.

“هذا غير طبيعي”، همس حسن، سائق تاكسي محلي. ركابه، وهم مجموعة من القرويين المحتشدين في المقعد الخلفي، أومأوا برؤوسهم أو همسوا بأدعية للمغفرة. “”يقولون إنهم بدأوا يتلاعبون بالغيوم… يريدون صناعة المطر بدلاً من تركه لإرادة الله”، أضاف.

في المغرب، المطر ليس مجرد مطر، بل هو تجلٍّ لمزاج إلهي، حوار بين السماء والناس. في السنوات الماضية، كلما جاء الشتاء جافًا، كان الملك محمد السادس، أمير المؤمنين، يدعو إلى الصلاة. صلاة الاستسقاء، هي طقس مستمدّ من صميم التقليد النبوي. يجتمع المصلّون، غالبًا حفاة، في الحقول المفتوحة أو في باحات المساجد، بثيابٍ فضفاضة، يتضرعون طلبًا للمغفرة والرحمة. في المناطق الريفية، تسير أحيانًا قرى بأكملها مع بزوغ الفجر، يتقدّمهم الأطفال، تذكيرًا بأن البراءة قد تستجلب الرحمة الإلهية.

في أماكن أخرى، في المجتمعات الأمازيغية الوعرة في جبال الأطلس، لا تزال الفتيات يؤدين طقس “تاغنجة”، وهو طقس استسقاء قديم يسبق الإسلام. يرتدين أوراق الأشجار ويجُبن قراهن وهنّ يغنين للسماء، بينما يسكب الشيوخ الماء على رؤوسهنّ في دعوة رمزية للغيث من السماء. في هذه الطقوس، لا يُنظر إلى الجفاف كظاهرة علمية، بل كاختبار للروح الجماعية.

“المطر ليس مجرد ظاهرة مناخية بالنسبة إلينا، بل هو بركة، يأتي حين تكون الأرض مستعدة والناس متواضعين”، قالت عائشة، مسنّة من وادٍ قرب ورزازات، في حديث مع أمواج.

في تلك القرية بالذات، بدأت أفهم للمرة الأولى ما معنى الاستمطار، وماذا تُمثّل الغيوم بحدّ ذاتها لمجتمعات متجذّرة بهذا العمق في الأرض. فالسنة الأمازيغية، في نهاية المطاف، تبدأ وفقًا للتقويم الزراعي. هنا، المطر ليس مجرّد ماء يهطل من السماء؛ بل هو إشارة، وعهد. لكن فوق هذه الصلة الروحية، هناك شكّ متجذّر، لا يصنعه الطقس، بل السياسة.

منظر لمنطقة صحراوية بالقرب من زاكورة. الصورة: كريستيان نيكودينوسكي

كثيرون في هذه المناطق الجبلية النائية لا يتحدثون عن المسؤولين الحكوميين بصفتهم موظفين في خدمة الشعب، بل يصفونهم بأنهم “ناس الرباط”، رجال في بذلات رسمية، تظهر أسماؤهم في العناوين، وتُحدِث سياساتهم أثراً في حياة الناس من بعيد. في هذه القرى، حيث نادرًا ما يزورهم مسؤول، إن زارهم أحد أصلاً، يتحوّلون إلى مخلوقات شبه أسطورية، تتسلل كلماتهم وقراراتهم كأنها شائعات. ووعودهم، بالنسبة لكثيرين هنا، تبدو غير ملموسة بقدر الغيوم نفسها.

معاناة المغرب الطويلة مع الجفاف… والآن الفيضانات

يشهد المغرب أسوأ موجة جفاف منذ عقود. لست سنوات متتالية، لم تقدّم سماء المملكة سوى الغبار. تراجعت كميات الأمطار إلى ما دون المعدلات الموسمية بنسبة وصلت إلى 67%. الخزانات الكبرى مثل سد بين الويدان وسد المسيرة تقلّصت إلى أحواض متشققة، كاشفةً عن حجارة قديمة وهياكل عظمية لأسماكٍ مبيّضة بالشمس.

وبحلول عام 2023، انخفض معدل ملء السدود في البلاد إلى أقل من 30%، وفي بعض الأقاليم الجنوبية، كان لا بدّ من نقل المياه بالصهاريج أسبوعيًا، وأحيانًا بشكلٍ يومي. وجدت مجتمعات بأكملها نفسها مجبرة على تقنين استهلاك المياه. في مدن مثل مراكش وأكادير، كانت الصنابير تجفّ مع حلول المساء، وأصبحت الاستحمامات تُوقّت بدقة. في الدار البيضاء، فرضت وزارة التجهيز والماء قطع المياه ليلاً، وأمرت الحمامات التقليدية بالإغلاق ثلاثة أيام في الأسبوع، معلّلة ذلك بـ”ندرة استثنائية”.

في القرى التي لا شبكات مياه فيها، كانت النساء والفتيات يستيقظن مع الفجر ويقطعن كيلومترات مشيًا نحو الآبار المشتركة، ليعدن بجراكن بلاستيكية لا تملؤها سوى مياه مالحة وراكدة. كان التأثير على الزراعة، العمود الفقري للحياة الريفية في المغرب، كارثياً. محاصيل القمح ذبلت، ومحصول الزيتون تقلّص إلى النصف، مما حوّل زيت الزيتون، الذي كان يومًا من أساسيات المائدة المغربية، إلى سلعة فاخرة لا يقدر عليها سوى القليلون.

النساء والفتيات يستيقظن مع الفجر ويقطعن كيلومترات مشيًا نحو الآبار المشتركة، ليعدن بجراكن بلاستيكية لا تملؤها سوى مياه مالحة وراكدة

في حزام زراعة الزعفران قرب تالوين، ظهرت زهور الزعفران الثمينة بعد أسابيع من موعدها المعتاد، وبأعداد شحيحة. أما الرعاة الرحّل في جبال الأطلس الكبير، فقد خسروا قطعانًا كاملة بسبب الأزمة المناخية. “لم يتوفر لنا ما نطعمهم به. بعناهم أو رأيناهم يموتون”، قال أحد الرعاة الأمازيغ قرب الراشيدية قدّمت خطة الطوارئ الحكومية لمواجهة الجفاف عام 2022 دعماً مالياً للمزارعين، وباشرت ببناء محطات تحلية جديدة، لكن بالنسبة لكثيرين، جاء هذا الدعم متأخرًا، أو لم يصلهم إطلاقًا. ومع انهيار سبل العيش في الأرياف، هجرت بعض العائلات أراضيها وانتقلت إلى المدن، مما زاد من عدد السكان الذين يعيشون في ظروف حضرية هشة.

في زاكورة، وهي بلدة واحة نُحتت في سهول مغبرّة كان نهر درعة يتدفّق فيها بحرية، لطالما كانت الحياة تتمحور حول شجرة النخيل. تصطفّ هذه الأشجار العتيقة تحت نظرة جبال بني القاسية. وعلى مرّ الأجيال، كان إيقاع البلدة يُحدَّد بفصول السنة: التمر في الخريف، القمح في الشتاء، والحرّ اللاهب في الربيع.

هنا، تأتي المياه من آبار عميقة ومن الخَطّارات التقليدية، وهي قنوات تحت الأرض حُفرت قبل قرون لالتقاط كل قطرة ماء وتوجيهها نحو الحقول والمنازل. لكن في السنوات الأخيرة، بدأت الآبار تجفّ. يتحدث السكان عن الرمال التي تزحف إلى أراضيهم، وعن أشجار تُثمر متأخرة أو لا تُثمر إطلاقًا. أما النهر، الذي كان شريان الحياة، فلم يعد يظهر إلا بعد أمطار نادرة، ليترك ندبة باهتة في قلب الوادي. “عانينا كثيراً في السنوات الأخيرة. الجفاف ضربنا بقوة”، قال أبراني، مزارع من زاكورة.

ثم جاء مطر أيلول 2024، وتكرر في شباط 2025. لم يكن رذاذاً خفيفاً، بل طوفاناً شقّ السماء، حوّل مجاري المياه الجافة إلى سيول، والأزقة إلى أنهار. تحت ثقل هذا الماء، انهارت البنية التحتية الهشة للبلدة، التي لم تعد مجهّزة لاستقبال مثل هذا الحجم من الأمطار. “المطر لم يساعد الفلاحين كثيرًا، بل زاد حياة الناس صعوبة. غمرت المياه الشوارع، لكن الواحة لم تتحسن”، أضاف المزارع.

في المناطق الجنوبية القاحلة مثل درعة-تافيلالت، وتزنيت، وزاكورة، عادت الأنهار للظهور في أماكن كانت تحكمها الأودية الجافة منذ سنوات. في زاكورة، حيث نادرًا ما يتجاوز معدّل الأمطار السنوي عشرة مليمترات، تساقط أكثر من 200 مليمتر خلال يومين فقط ، أي أكثر مما تتلقاه البلدة خلال سنة كاملة.

منظر عام لسيدي بوغابة، قرب الرباط، بعد هطول الأمطار. الصورة: بسمة العتي / AMWAJ.

في طاطا، وهي بلدة واحة صحراوية، مزّقت مياه الفيضانات بساتين النخيل والمنازل الطينية. ووفقاً لوزارة الداخلية، انهار ما لا يقل عن 56 منزلاً. وفي 30 سبتمبر، تم انتشال جثة رجل من النهر المتضخم قرب طاطا. قبل ذلك بتسعة أيام، اختفت حافلة تقلّ 29 قروياً في السيل الجارف. وقالت السلطات إن 18 شخصاً على الأقل لقوا حتفهم في الحادث.

“لم نشهد أمرًا كهذا في حياتنا”، قال عبد الرحمن، أحد السكان الذين شُرّدوا من طاطا. في الواحة المحيطة، كانت حوالي 90% من أشجار النخيل مقتلعة أو مدمّرة. وبحلول أواخر تشرين الأول، كانت النساء والأطفال لا يزالون يتجوّلون بين الأنقاض، يبحثون عن أحذية، وأغطية، وقدور للطبخ، وقطع صغيرة من حياتهم التي انقطعت فجأة.

هذا هو الجنوب المغربي، طاطا، بلدة صحراوية تقع على أطراف الصحراء الكبرى، مكان اعتاد الجفاف أكثر من الفيضانات. ومع ارتفاع منسوب المياه، ارتفعت أيضًا موجة غريبة من نظريات المؤامرة. في المقاهي، ومجموعات الواتساب، وتعليقات فيسبوك، وقنوات يوتيوب، بدأت نظرية واحدة تتجذر: المغرب هو من جعل المطر يهطل. هذه الفكرة ليست جديدة بالكامل.

من هاتفيليد إلى “الغيث”: مؤامرات الاستمطار والسياسة

في عام 1915، ادّعى أميركي يُدعى تشارلز هاتفيليد أنه قادر على استدعاء المطر باستخدام خلطة سرّية من المواد الكيميائية وشيء من الجرأة (وقد يضيف بعض النقّاد: الاحتيال). نصب معدّاته قرب سان دييغو، صعد إلى برج، وأطلق خلطته في السماء. ما تلا ذلك كان فوضى: فيضانات، وفيات، ودعاوى قضائية. وأصرّ هو على أنه أوفى بما وعد.

لكن خبراء الأرصاد حينها ومنذ ذلك الحين، أشاروا إلى أن المنطقة كانت أصلاً على وشك أن تشهد حدثًا مطريًا كبيرًا بحسب أنماط الطقس الطبيعية. لا يوجد أي دليل علمي يثبت أن طرق هاتفيليد كانت فعّالة أو أنها تسببت فعلاً في تلك الفيضانات.

يرى البعض في هاتفيليد رائدًا وصاحب رؤية في مجال تعديل الطقس. بينما يعتبره آخرون دجالًا محظوظًا استغل الصدفة وأنماط الطقس الطبيعية لصالحه.

بعد قرن من الزمن، أصبحت الأساليب أكثر تطورًا، لكنها لم تصبح أقل إثارة للجدل. الاستمطار الصناعي، النسخة الحديثة من تعديل الطقس، يقوم على تحفيز الرطوبة الموجودة في الغيوم. الاستمطار لا يخلق الغيوم، ولا يستحضر الطقس من العدم. “آه، لو كان بإمكاننا بالفعل صنع كل هذا المطر، لكنا قد حللنا الكثير من المشكلات”، قال محمد جدلي، خبير مناخي مغربي، بسخرية.لا

ببساطة، يحدث الهطول عندما تتكاثف قطرات الماء وبلّورات الجليد في الغيوم حول جزيئات صغيرة من الغبار أو الملح، وتصبح ثقيلة لدرجة لا يمكنها البقاء معلقة في الهواء، فتهطل إلى الأرض بفعل الجاذبية. الاستمطار الصناعي يحفّز هذه العملية بشكل مصطنع عبر إدخال مواد في الغيوم تحاكي ما يحصل في الطبيعة.

غالبًا ما يستخدم العلماء مادة يوديد الفضة، ويُطلَق من الطائرات أو من مولّدات أرضية. هذه المادة تساعد على تشكيل بلورات الجليد بسبب بنيتها البلورية. عندما تنجح العملية، تُنتج الغيمة كمية أمطار أكبر قليلًا مما كانت ستنتجه طبيعيًا. وعندما لا تنجح، تتابع الغيمة مسارها.

أن التدخلات البيئية الأحادية قد تثير توتّرات جيوسياسية، خاصة بين الدول المجاورة التي تتأثر بالظروف المناخية العابرة للحدود

ينفّذ المغرب عمليات استمطار صناعي منذ عقود. بين عامَي 1984 و1989، تعاونت المملكة مع الولايات المتحدة في “برنامج الغيث”، وهو مبادرة بقيمة 12 مليون دولار هدفها تعزيز الموارد المائية. زوّد المشروع المغرب بأول رادار للأرصاد الجوية، ودرّب أكثر من مئة مختص، وجرّب تقنيات الاستمطار الجويّة والأرضيّة. ومنذ عام 2021، ومع تفاقم موجات الجفاف، أصبحت الحكومة المغربية أكثر انفتاحًا في الحديث عن البرنامج، وقدّمت بيانات أمام البرلمان، وأطلقت 140 عملية استمطار صناعي، 52 جوية و88 أرضية.

لكن مع اجتياح الفيضانات لأجزاء من البلاد العام الماضي، بدأت الشكوك تتصاعد. بعض وسائل الإعلام الإسبانية نشرت تقارير عن تزايد الريبة في المنطقة، خصوصًا في جنوب إسبانيا وفي جيبي سبتة ومليلية.

“التدخل الصناعي في المناخ والطقس يمكن أن يؤدي إلى عواقب غير متوقعة على مستوى المنطقة بأكملها”، كتب الصحفي بابلو راموس في مجلة إل تييمبو المتخصصة في شؤون الطقس. كما حذّر المقال من أن التدخلات البيئية الأحادية قد تثير توتّرات جيوسياسية، خاصة بين الدول المجاورة التي تتأثر بالظروف المناخية العابرة للحدود. ولم تتّهم مدريد رسميًا الرباط بالتسبّب في الفيضانات.

ومع ذلك، تسللت فكرة تعديل الطقس كسلاح جيوسياسي إلى عالم نظريات المؤامرة على الإنترنت، خاصة في الجزائر، حيث العلاقات الدبلوماسية مع المغرب متوترة منذ سنوات. اليوم، أصبح الاستمطار الصناعي الموضوع الأحدث في دوائر التكهنات على يوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث يُصوَّر كأداة خفية للنفوذ والسيطرة.

تعديل توضيحي بواسطة داريانا غيفيرا / AMWAJ.

في الرباط، حاول وزير التجهيز والماء نزار بركة تهدئة المخاوف. وأكّد أن أي عملية استمطار لم تُنفّذ في المناطق الجنوبية التي ضربتها الفيضانات العنيفة عامي 2024 و2025.

شدّد الوزير على أن البرنامج يخضع لإرشادات علمية دقيقة، ولا يُفعَّل إلا في فترات الجفاف، ووفقاً للبيانات المناخية الصادرة عن مصالح الأرصاد الجوية. في آذار، وبعد موجة جديدة من الأمطار الغزيرة، التقيت بالدكتور عبد الرحيم مجان، خبير أرصاد جوية في المديرية العامة للأرصاد الجوية في المغرب. “لا، قطعًا، الاستمطار الصناعي لا علاقة له بالأمطار الأخيرة”، قالها بنبرة من اعتاد هذا السؤال مرارًا.

لم يتمكن مجان من تحديد موعد دقيق لآخر عملية ضمن برنامج الغيث، لكنه أكد بحزم أنه لم تُنفذ أي عملية خلال فترة الفيضانات. هذا الموقف دعمه أيضًا عمر بدور، رئيس خدمات رصد المناخ والسياسات في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO). وقد أكد أن الفيضانات وقعت في مناطق لم تكن مستهدفة بالاستمطار، وفي فترة خارجة عن نافذة التشغيل المعتادة.

ومع ذلك، ما بين التصريحات الرسمية والإشاعات المنتشرة على الإنترنت، هناك هوّة من الغموض، يترك فيها مزارعون مثل أبراني، في سهول زاكورة القاحلة، في مواجهة أمطار تهطل بعنف وسرعة، وجفاف يأبى أن ينتهي. “حتى الآن، ورغم المطر الأخير، ما زلنا نعاني من الجفاف”، قال المزارع. “لا نعرف فعليًا طبيعة هذا المطر، لكننا لسنا ضد التكنولوجيا إذا كانت فعالة وسوف تساعد.”

الاستمطار الصناعي: حلّ أم مشكلة في فوضى الطقس في المغرب؟

بحثت عن إجابات إضافية في جامعة محمد السادس متعددة التخصصات، وهي مركز للأبحاث المتقدمة في الذكاء الاصطناعي، وبرامج دراسات عليا معقّدة، وطلاب من مختلف أنحاء إفريقيا يسعون للحصول على مؤهلات تخصصية. داخل مكتبة الجامعة، التقيت بيريز كيميني، باحث في المعهد الدولي لأبحاث المياه (IWRI)، وهو وحدة بحثية جديدة في الجامعة. أمضى كيميني ثلاث سنوات في لقاءات مع المزارعين، يستمع إلى مشاكلهم، ويناقشهم في سياسات الزراعة.

“”مشكلتنا لا تقتصر على الحاجة إلى مزيد من التكنولوجيا، بل إلى التواصل…”
“لأن المزارعين هم من يتحملون حاليًا تبعات الجفاف والفيضانات معًا”، قال كيميني لأمواج.

بيريز يعتقد أن لفهم مفارقة الجفاف والفيضانات الأخيرة في المغرب، يجب أولاً النظر إلى مناخ البلاد المعقّد من خلال عيون المزارعين. فالتهديد الأكثر إلحاحاً لموارد المغرب المائية ليس الجفاف وحده، بل إيقاع تغيّر المناخ المتقلب: وتيرة المطر غير المتوقعة، ودرجات الحرارة المتصاعدة، والضغط الهائل الذي يفرضه كل ذلك على نظام مائي هشّ أساساً.

مشكلتنا لا تقتصر على الحاجة إلى مزيد من التكنولوجيا،

بل إلى التواصل

بالنسبة للمزارعين، تبدأ القصة غالبًا بالجفاف، وتنتهي به. نحو 80% منهم يعتبرونه مصدر قلقهم الرئيسي، بحسب الباحث. لكن الجفاف في المغرب ليس مجرد غياب للأمطار، بل سلسلة متشابكة من تبعات التغيّر المناخي.

فدرجات الحرارة المرتفعة تؤدي إلى انخفاض كميات الأمطار وتسريع ذوبان الثلوج في جبال الأطلس، وهي خزّانات طبيعية تغذّي الأنهار والسدود بصمت. ومع ارتفاع الحرارة، تذوب الثلوج بسرعة كبيرة، ما يملأ السدود لفترة وجيزة قبل أن تجفّ مجددًا، تاركة الحقول عطشى من جديد. هذا الوميض من الوفرة خادع. قد يحتفل المزارعون بعد هطول مطر غزير، لكن الاحتفال لا يدوم طويلًا.

منظر عام لتنغير، المغرب. الصورة: ريغل / Unsplash

مصطفى صلاح بنرمل، خبير بيئي ورئيس جمعية منارات الإيكولوجيا التي تعمل مع المزارعين المحليين، أوضح أكثر: “هذه الأمطار لن تفيد المزارعين كثيرًا لأنها جاءت متأخرة وغير منتظمة. المحاصيل تحتاج إلى انتظام، لا إلى غزارة”، قال مصطفى صلاح بنرمل.

نبتة القمح، على سبيل المثال، تحتاج إلى الماء في مراحل نمو محددة. إذا فاتتها فترة الإزهار، تفشل في إنتاج الحبوب، بغض النظر عن كمية المياه التي حصلت عليها قبل أو بعد. من دون إمداد ثابت ومتوقع، تنهار دورة حياة المحصول. “الأزمة الحقيقية ليست أن المطر لم يعد يهطل، بل أنه لم يعد يهطل في الوقت المناسب، وإذا هطل، فإنه يهطل بعنف”، شرح كيميني.

عبر حوض المتوسط وصولًا إلى المغرب، باتت الأمطار أكثر تقلبًا، وأكثر عنفًا. عاصفة واحدة كفيلة بإطلاق فيضانات مدمّرة، وجرف التربة السطحية، وإغراق البراعم الحساسة، لتتبعها أسابيع من الجفاف.

في أواخر عام 2024، ضربت فيضانات شديدة تونس والجزائر وإسبانيا، كاشفة هشاشة المنطقة المتزايدة أمام صدمات المناخ. في إسبانيا، أسفرت الأمطار الغزيرة عن مقتل أكثر من 230 شخصًا، وتسببت بأضرار بمليارات الدولارات. أما الجزائر وتونس، فقد غُمرت مدنهما بفيضانات مفاجئة بعد عواصف نادرة وعنيفة.

تُعدّ التربة المغربية الغنية بالطين ممتازة في احتباس الرطوبة، لكنها غير مهيّأة لتحمّل هذه الفوارق القصوى. فهي تغرق بسرعة، وتتشقّق حين تجف بالسرعة ذاتها. وقد أبلغ خبراء المياه عن ارتفاع منسوب السدود أثناء العواصف، لكن تلك المكاسب كانت عابرة. فيضان مؤقت لا يُعادل شهرًا من الجفاف. “نزل المطر”، يقول الناس. لكن بالنسبة للمزارعين، هذا النوع من المطر لا يعني الكثير. ما يحتاجونه هو ذلك الرذاذ البطيء والثابت، الذي يسمح للبذور أن تنبت، وللحقول أن تتنفّس. بالنسبة لكيميني، الاستمطار الصناعي يبدو واعدًا من الناحية النظرية، لكنه مليء بالتعقيدات على أرض الواقع.

تُعدّ التربة المغربية الغنية بالطين ممتازة في احتباس الرطوبة، لكنها غير مهيّأة لتحمّل هذه الفوارق القصوى

يرى الخبير في تغيّر المناخ أن الأمطار الناتجة عن تدخل بشري يجب أن تتماشى مع دورات الزراعة. وإن لم تفعل، فقد تكون النتيجة غير مجدية، أو حتى ضارة. فأي هطول مفاجئ في منطقة تعاني من خزانات ضحلة أو مجاري مياه مهملة، قد يُسبب ضررًا أكثر من النفع.

المزارعون في الأرياف يحتاجون إلى معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب حول متى وأين قد تهطل الأمطار الصناعية. من دون هذه المعلومات، تُزرع البذور في وقت مبكر جدًا أو متأخر جدًا. تقاويم الزراعة تتغير بصمت، والمحاصيل تتعثر، أضاف كيميني.

بيريز كيميني (في الوسط) مع مزارعين بالقرب من مراكش، المغرب. الصورة: مقدمة.

يعتمد معظم المزارعين المغاربة اعتمادًا كليًا على الأمطار لريّ محاصيلهم. وإذا تغيّرت أنماط الهطول من دون أي إنذار مبكر، أو دعم من شبكات الإرشاد الزراعي، فإن حتى أكثر الجهود نيةً لن تُجدي نفعًا. “والأسوأ أن العملية قد تصبح هدرًا، فالاستمطار مكلف”، أضاف كيميني بابتسامة وهو ينتقي كلماته. “وإذا فشل في إحداث فرق لمن هم في أمسّ الحاجة إليه، فليست الخسارة مالية فقط… بل وجودية.”

بالنسبة لهذا الباحث الشاب، الذي يعترف بمحدودية معرفته بتقنية الاستمطار، هناك سؤال أكثر إزعاجًا: إلى أي حد يمكننا التحكم فعليًا بهذه التقنية؟ إذا كان بإمكاننا تحفيز الغيوم لإسقاط المطر، فهل نستطيع تحديد كمية الهطول؟ أو مكان سقوطه؟

“إذا لم يكن كذلك، فالمغرب مهدد بحلّ أزمة عبر إطلاق أخرى”، قال كيميني. “الفيضانات قادرة على تدمير محاصيل كاملة. وبعدها، قلائل من الفلاحين يستطيعون البدء من جديد. فالبذور باهظة الثمن، والتأمين شبه معدوم.” في المغرب، لم يعد السؤال: هل ستمطر؟ بل: كيف؟ ومتى؟ وبأي ثمن؟

الممارسات التقليدية أم التكنولوجيا الحديثة؟

تؤكد السلطات المغربية للأرصاد الجوية، وكذلك المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) ، أن الاستمطار الصناعي لا يُستخدم إلا في الحالات الضرورية القصوى. ورغم أن برنامج الغيث لا يتشاور مباشرة مع المزارعين، إلا أنه يضم خبراء مناخيين على دراية بإيقاع الأرض.

الدكتور عبد الرحيم مجان، أحد كبار المتنبئين الجويين في المديرية العامة للأرصاد الجوية في المغرب، يصرّ على أن الفيضانات كانت نتيجة بنية تحتية فاشلة، لا نتيجة للاستـمطار. وأضاف أن هذه التقنية ساعدت البلاد على الصمود في وجه موجات الجفاف الطويلة.

ومع ذلك، حتى على المستوى الدولي، بدأ وهج الاستمطار يتراجع. فقد خفّضت أستراليا برامجها الكبرى في العقد الأول من الألفية الثالثة بعد نتائج غير حاسمة. وفي الولايات المتحدة، لم يبقَ سوى عدد قليل من الولايات تستخدم التقنية، معظمها في المناطق الجبلية. أما السنغال، التي كانت شريكًا سابقًا للمغرب في جهود تعديل الطقس، فقد تراجعت، مشيرة إلى نتائج غير مستقرة في كميات الأمطار وظروف مناخية متغيرة.

عمر بدور، مسؤول المناخ البارز في المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، يقدّر أن الاستمطار يمكن أن يزيد نسبة الهطول بنحو 15% فقط، إذا توفرت الشروط المناسبة. “وهذا غير كافٍ”، قال. بالتوازي، يعمل المغرب على توسيع مشاريع تحلية المياه، خصوصًا في محيط الدار البيضاء وأكادير. لكن مجموعات محلية تحذّر من أن هذه مجرد حلول مؤقتة.

“في قلب أزمة المياه في المغرب، يوجد نموذج تنمية زراعية يفضّل التصدير على الصمود”، يقول عبد الجليل تخيم من منصة “نشفات”، وهي مبادرة محلية تُعنى بالتوعية حول قضايا تغيّر المناخ.

منذ أوائل الألفينات، تحوّلت السياسات العامة نحو الليبرالية، وبدأ التركيز على محاصيل ذات قيمة مرتفعة مثل الطماطم والتوت للأسواق الأوروبية. وقد عمّق مخطط المغرب الأخضر لعام 2008 هذا التوجّه، مستثمرًا في الري بالتنقيط والبذور المحسّنة وراثيًا من أجل زيادة الإنتاج والعائدات من العملة الصعبة. لكن هذا النموذج همّش الزراعة البعلية، وهي عماد الزراعة المعيشية في الجبال والواحات المغربية. المحاصيل الأساسية، مثل الحبوب وغيرها مما كان يشكّل ركيزة الأمن الغذائي، تم تصنيفها على أنها ذات قيمة منخفضة.

ما يحتاجه المغرب اليوم، هو تحوّل جذري في النهج: من نموذج زراعي موجّه للتصدير إلى الزراعة الإيكولوجية

حتى تقنيات ترشيد المياه تسببت في آثار عكسية: فقد أدّت إلى زيادة مفرطة في سحب المياه الجوفية، واستنزاف المخزونات أسرع مما يمكن تجديدها، وفقًا لمنصة “نشفات”. استفاد كبار الفاعلين في القطاع الزراعي من الدعم الحكومي بشكل أساسي، مما شجّع على ممارسات شديدة الاستهلاك للمياه، بينما تُرك صغار المزارعين على الهامش”، قال تخيم.
“وأغلب المحاصيل المدعومة لا تُستهلك محليًا أصلاً، بل تُشحن إلى رفوف المتاجر في أوروبا.” نادراً ما تصل الأرباح إلى المجتمعات الريفية التي تنضب آبارها.

ما يحتاجه المغرب اليوم، وفقًا لـ “نشفات”، هو تحوّل جذري في النهج: من نموذج زراعي موجّه للتصدير إلى الزراعة الإيكولوجية، وممارسات مستدامة متجذرة في المعرفة المحلية التي راكمها سكان هذه الأرض على مدى أجيال. “أنظمة تقليدية لتقاسم المياه، محاصيل مقاومة للجفاف، ومزارع صغيرة… كل هذه لا تحمل تنوعًا جينيًا فقط، بل تراثًا من الصمود”، قال تخيم.

في بلد يُعتبَر فيه المطر نذيرًا ومعلومة خوارزمية في آن، قد يعتمد المستقبل على شراكة هشّة: أقمار الرباط الصناعية، الصامتة والدقيقة، تراقب الطبقات العليا من الغلاف الجوي؛ ومزارعو الجبال، يقرؤون الغيوم كما فعل أجدادهم. بينهما لا يكمن فقط بُعد جغرافي، بل اختلاف في طريقة الفهم. ومع ذلك، يرى الخبراء البيئيون أن الحلّ قد يُولد من هذه المسافة بالذات، لا من خلال السيطرة على السماء، بل من خلال التعايش مع مزاجها.

Subscribe
Notify of
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة:

اشترك في نشرتنا الشهرية

تابعونا ليصلكم/ن كل جديد!

انضموا إلى قناتنا على الواتساب لنشارككم أبرز المقالات والتحقيقات بالإضافة الى فرص تدريبية معمقة في عالم الصحافة والإعلام.

هل تريد تجربة أفضل؟

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة التصفح وتحليل حركة المرور وتقديم محتوى مخصص. يمكنك إدارة تفضيلاتك في أي وقت.

ملفات تعريف الارتباط الضرورية

ضرورية لعمل الموقع بشكل صحيح. لا يمكن تعطيلها.

ملفات تعريف الارتباط للتتبع

تُستخدم لمساعدتنا في تحسين تجربتك من خلال التحليلات والمحتوى المخصص.

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x