تعمل عائلة عمر رافي 30 عاماً، المتواضعة ما في وسعها لتلبية احتياجاته المتعددة التي كان من الصعب فهمها لعدم امتلاك عمر قدرته على النطق السليم.
حالة عمر ليست الوحيدة، بل تكثر الحالات، وتتعدد أسبابها، بين الوراثي والمكتسب، وكلها تندرج ضمن فئة “ذوي الاحتياجات الخاصة”. والأخيرة تسمية “لطيفة” إذا تمت مقارنتها بسابقتها التي أطلقت على الفئة نفسها، حسبما أشارت الدكتورة مي مارون المتخصصة في مجال .علم الاجتماع التربوي
قوانين غير واضحة… وأزمات انعكست على واقع ذوي الاحتياجات الخاصة
منذ 1973 خلطت القوانين اللبنانية المخصصة لحقوق ذوي الاحتياجات في موادها، وبدا جليًّا أن المشرّع كان يتجه من خلال الأسباب الموجبة لهذه قوانين كالقانون ٢٢٠/٢٠٠٠ (١)، المتعلق بحق الشخص من ذوي القدرات الخاصة في الحصول على الخدمات الصحية وإعادة التأهيل إلى تحقيق هدف “الاندماج الكامل” لذوي الاحتياجات، وهو اندماج ترنح على أرض الواقع بين الغياب والظهور، وفي بلد عصفت به كل الأزمات، بدءاً من الاقتصادية وانفجار مرفأ بيروت وصولاً إلى الحرب الدائرة اليوم في لبنان، وإن اقتصرت على مناطق البقاع والضاحية والجنوب. انعكست تلك الأزمات على ذوي الاحتياجات الخاصة بدءًا من شح الدعم المالي للمؤسسات التي ترعى هؤلاء الأشخاص، مروراً بالتسهيلات التي لم تكن ممكنة، من التنقل والاختلاط مع بقية أفراد المجتمع وصولًا إلى المنظار المجتمعي الضيق الذي ينظر من خلاله إليهم.
ووفقاً لوزارة الشؤون الاجتماعية حصل نحو 120,000 من ذوي الإعاقة لغاية مطلع العام 2023 على بطاقة المعوّق الشخصية، بالإضافة إلى كثير من الأشخاص الذين لا يحملون بطاقات، وذلك بحسب الخطة الوطنية لحقوق ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة 2023-2030، حيث لم تكشف الخطة إلا عن التوصل إلى شراكة إستراتيجية بُنِيت بين منظمة العمل الدولية واليونيسيف من جهة وبين 8 جمعيات تمثل الأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة في لبنان، وهذا أول نوع من الشراكة تقوم بين منظمات الأمم المتحدة ومنظمات الأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة، لتطرح أسئلة تتمحور حول إيجاد حلول لمعاناتهم.
وحول الموضوع تواصلت صلة وصل مع وزارة الشؤون الاجتماعية للحديث عن تفاصيل الخطة الشاملة والحلول التي ستنعكس إيجاباً على تلك الفئات، لكن الوزارة طلبت تأجيل الحديث إلى ما بعد حفل الإطلاق الرسمي في السراي الحكومي والمرجح أن يكون في كانون الأوّل من هذا العام.
شلل كامل… ونزوح
شاء القدر أن يصاب “حسن جربوع” 25 عاماً، عندما كان طفلًا رضيعاً، بالشلل الكامل والتشنج الشديد، بسبب حادث سير مروّع تسبب ببقائه لسنوات يتلقى العلاج الفيزيائي، حيث تبلغ كلفة الجلسة الواحد نحو 25 دولاراً، تكاليف جديدة تتحملها العائلة في ظل الحرب الحالية والنزوح الذي طال أغلب اللبنانيين في مناطق الاستهدافات الإسرائيلية.
الذي اضطر إلى النزوح مع توسع الحرب على جنوب لبنان ما زاد من أزمة تلك الفئات إضافة إلى التحديات المادية والمجتمعية والقانونية، الأمر الذي يضع ذوي الاحتياجات الخاصة أمام إشكالية أكثر تعقيداً تمثلت بتداعيات الحرب.
مركز “مصان” لذوي الاحتياجات الخاصة في مدينة صور يشرح واقع حال المعاناة التي تمثل هذه الفئات، المديرة التنفيذية للمركز نجاة سكماني تقول:”المركز يعمل منذ عام 1993، مع الأطفال والشباب بمتطلبات عمل خاصة وصفوف متخصصة، ويستقبل حالات تختلف عن بعضها البعض (متلازمة داون، الإعاقة الخفيفة المتوسطة والشديدة، الشلل الدماغي، التوحد)، ويقدم خدمات علاجية متنوعة، حيث كان يواجه صعوبات مالية في السابق، ولكن هذه الصعوبات قد تفاقمت من السيئ إلى الأسوأ، وهي اليوم تعيق المركز في الاستمرار بتقديم الخدمات والقدرة على رعاية هذه الفئة المعرضة للتهميش الفعلي”.
وتضيف أن “التدهور الراهن بدأ يظهر بوضوح في مجالات حيوية كالنقل والطاقة والأجور وتقليص الخدمات المقدمة، وأن تبعاته أصابت عدة مستويات اجتماعية في آنٍ معاً، إذ نحن بحاجة إلى المساهمات المالية إلى حد بعيد، وإلا فسوف نقف عاجزين عن تقديم خدمات الرعاية للطلاب”.
سكماني أشارت إلى أن نقص التوريد المادي يهدد استمرار هذه المراكز، حيث يوجد في المركز بحسب ما قالته لــ “صلة وصل: “نحو 175 تلميذاً وتلميذة تغطي وزارة الشؤون الاجتماعي منهم 116 حالة، وبأن المركز ككل الجمعيات أو المراكز التي تُعْنَى بذوي الاحتياجات، لم يتلق مستحقاته منذ أكثر من سنتين، إذ إنَّ المصارف تحتجز أموالها، وتمنعها من سحب حوالات وزارة المالية والأخيرة لم تَحْوَلّ إليها إيصالات .الدفع التي تعود لأكثر من سنتين، ولا تراعي الانهيار الذي حصل وتدهور قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي”
أما لجهة تأثير الوضع المالي على عدد الطلاب الحضوري فقد أصبح حسب سكماني أقل من المعتاد، بسبب عدم قدرة الأهل على تغطية التكاليف المادية، ولا سيما النقل الذي أصبح عائق أساسي نظرًا لارتفاع كلفته. وإذا ما أضفنا الأوضاع الأمنيّة في الجنوب، على حد قول سكماني، فهي أيضا تعيق وصول أو حضور الطلاب المركز، وهذا ما حصل مؤخرا مع بدء الضربات صباح نهار الاثنين 23 أيلول/سبتمبر 2024.
تداعيات الحرب الإسرائيلية
“توسعت اليوم دائرة الخطر لتهدد أمن المناطق اللبنانية، أن الوضع الأمني سبب إشكالية كبيرة لذوي الاحتياجات النازحين على الأصعدة كافة، وتفاقمت معاناتهم مع الحرب الإسرائيلية. برأيي الشخصي وكمسؤولة عن هذه الفئة، إنني أرى بأن الحرب أشد وطأة على فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، سيما في الجنوب حيث لا خطة تلحظ وضعهم ومعاناتهم مع النزوح” تقول سكماني.
وتشدد على أن في هذه الظروف إشكالية ممثلة بصعوبة التنقل أو الصعود إلى أية وسيلة نقل عند بعض الحالات كطلاب الشلل الدماغي. وهي ترى أنها حالات تحتاج إلى نمط حياة خاص بها من مستلزمات وتجهيزات وأدوية وغيرها، وكلها غير متوفرة حسب ما تقول.
“توسعت اليوم دائرة الخطر لتهدد أمن المناطق اللبنانية، أن الوضع الأمني سبب إشكالية كبيرة لذوي الاحتياجات النازحين على الأصعدة كافة، وتفاقمت معاناتهم مع الحرب الإسرائيلية. برأيي الشخصي وكمسؤولة عن هذه الفئة، إنني أرى بأن الحرب أشد وطأة على فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، سيما في الجنوب حيث لا خطة تلحظ وضعهم ومعاناتهم مع النزوح” تقول سكماني
أما في موضوع استقبال الطلاب النازحين، بسبب الحرب، يتم ذلك بمرافقة أهاليهم، ويتم تقديم الخدمات للأهل وكذلك للطلاب. تقول سكماني:”كمركز مصان ومع بداية الحرب، استقبلنا مجموعة من الطلاب مع أهاليهم لعدة أيام، ومن عدة مناطق مثل كفرا، صديقين، عيتا الشعب والناقورة. وقمنا بتقديم ما يلزم من حاجات كالملابس، الأدوية ، المواد الغذائية وغيرها من المسلتزمات وتعاونا مع ذويهم، وعملنا على مساعدة كل حالة من هذه الحالات”. وتلقي سكماني أهمية على وجود ذوي الاحتياجات الخاصة مع ذويهم إذ إنَّ الطالب في مثل هذه الظروف يكون في حالة ضياع، ويحتاج إلى عاطفة ذويه.
وتشير أيضا، إلى تبعات الحرب التي أثرت في أوضاع ذوي الاحتياجات الخاصة خاصة التبعات النفسية، مشيرةً إلى إحدى الحالات كحالة إحدى الطالبات في المركز، التي اتصلت والدتها بسكماني وكانت موجودة في مركز إيواء في إحدى المدارس، تطلب مساعدة ابنتها، وهي من ذوي التوحد التي تبكي، وتصرخ دون توقف على نحو متكرر، بسبب عدم توفر الدواء.
تحديات على المستوى الاجتماعي
لم تقتصر التحديات على النزوح والوضع المادي والاقتصادي على مستوى الجمعيات أو التكاليف التي لم تعد محمولة لدى الأهالي، بل أيضاً موضوع الاندماج الذي يعد من أهم هذه العوائق ونظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات على نحو خاص.
ترى الدكتورة مي مارون الأستاذة السابقة في كلية الإعلام – الجامعة اللبنانية في حديثها لمنصة صلة وصل أن:”ذوي الاحتياجات أشخاص لديهم مشاكل سمعيّة، بصرية، حركيّة ونفسيّة، وذلك على قياس الآخرين. وهم/ن يحتاجون إلى اهتمام خاص ورعاية ووقت أكثر من غيرهم/ن فيما خصّ تعليمهم/ن وتأهيلهم/ن”.
لم تقتصر التحديات على النزوح والوضع المادي والاقتصادي على مستوى الجمعيات أو التكاليف التي لم تعد محمولة لدى الأهالي، بل أيضاً موضوع الاندماج الذي يعد من أهم هذه العوائق ونظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات على نحو خاص
تضيف مارون:”خصصت لهم مؤسسات كانت أوّلها تلك التي أسسها الرهبان حيث كان هناك أسر لديها حالة من هذه الحالات. وقد بدأت المجتمعات تعمل على إيجاد مراكز لهؤلاء الأشخاص تكون خاصة لمثل حالاتهم، ولكنها كانت مراكز مكلفة”.
من جهة أخرى تعد مارون أنّ “دمج ذوي الاحتياجات هو صعب ومسألة الدمج بالصفوف في لبنان هي في غاية الصعوبة، وتحتاج إلى أشخاص متخصصين، كثيرًا ما يتم دمج صعوبات عدة مع بعضها البعض لأنّ الإمكانيّات الماديّة تكون غير كافيّة”. أما نظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات فقد كانت بداية نظرة دينيّة إلى حد كبير حسب مارون، وكان مصيرهم البقاء داخل منازل ذويهم بعيدًا عن أنظار المجتمع.
مسؤولية الحماية وعجز النصوص
يرى العميد الدكتورعادل مشموشي الحقوقي، والمتخصص في القانون الجزائي أن مسالة حماية ذوي الاحتياجات الخاصة هي مسألة إنسانيّة، وليست فقط صحية. فالإنسان يجب أن يقف إلى جانب أخيه الإنسان، خصوصا إذا كان سبب الإعاقة خارجًا عن مسؤوليّة الشخص كتعرضه لحادث مثلًا. وتابع:”في هذه الحالة فإنّ المسؤولية تخرج عن نطاق مسؤولية الشخص من ذوي الاحتياجات، وتصبح مسؤولية جماعية، وهنا فإنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهننا “الدولة” التي نصبت نفسها مسؤولة عن توفير كل أسباب الحمايّة والأمان حيث لا تقتصر مسؤوليتها على التكفل بالأمور الماديّة، بل تنسحب إلى ضرورة قيامها بتعميم روح التضامن والتعاون بين أفراد المجتمع خاصة عندما تكون أسباب الإعاقة خارجة عن إرادة الشخص المعوق”.
يعد مشموشي أن الدولة تقوم بتنظيم حياة الأفراد من خلال منظومة من القوانين والأنظمة النافذة. على رأس هذه القوانين يأتي الدستور الذي أكّد على المساواة والعدالة، ولم يغفل موضوع ذوي الاحتياجات الخاصة. لقد كرّس الحق في الحياة، في الحريّة في العمل وغيرها، وهي حقوق لكل إنسان سواء أكان معوّق أم غير معوّق.
يركز مشموشي على أهمية حق المعوّق في الحصول على المساعدة ليتمكن من الانخراط في المجتمع، وهو ما يسمى بإعادة التأهيل. ويضيف:”أنّ المشكلة لا تكمن في النصوص إذ قد تكون هذه الأخيرة عصريّة، إنما نجدها في عدم تحديث القوانين. فحتى القرارات الإدارية والتنفيذيّة ينبغي تحديثها بحيث تكون هناك روح متكاملة بين النصوص النافذة على مستوى الجمهورية اللبنانية”. ويشدد مشموشي على أنه وقبل البدء بتطبيق النصوص يجب توعية الرأي العام على طريقة التعامل مع المعوّق خاصة وأن كل إنسان معرض ليصبح من ذوي الاحتياجات.
حلول علها أن تطبق
يعد مشموشي أن “اندماج ذوي الاحتياجات الخاصة يفتح لهم الباب لكي يكونوا أفرادا منتجين إذ إنَّ العمل بالنسبة إلى الإنسان هو مسألة كرامة، ومن هنا فعلى الدولة تسخير قدراتهم في المجال الذي يكونوا فيه قادرين على العطاء من خلاله، وأن تأخذ النصوص النافذة بعين الاعتبار خصوصيّة كل حالة من حالات ذوي الاحتياجات”.
ويضيف: “يجب على الدولة تسهيل تنقلهم بدءاً من الساحات العامة والطرقات والأماكن العامة وكذلك المتنزهات. أما بالنسبة إلى الأماكن الأثرية، هناك ضرورة لإيجاد مسالك لها وأشخاص متخصصين لإيصال المعلومات لهم. أما في مجال التعليم فهناك إمكانية للتعليم عن بعد، الذيين أو اللواتي لا يمكنهم/ن الذهاب إلى المدرسة”. مشدداً على ضرورة توفير لهم/ن الإمكانيات لإجراء الامتحانات الرسمية.
يضيف العميد مشموشي:”من المهم إنشاء مستشفيات ومستوصفات طبية متخصصة تُعْنَى بالمعالجة السريرية الطبية وأيضًا عيادات اجتماعيّة للمتابعة من الناحيّة النفسيّة، وأن تكون كل هذه العيادات مؤهلة علميًّا واجتماعيًّا وماديًّا”.
يضيء مشموشي على أهمية ودور البلديات في موضوع تسهيل حياة ذوي الاحتياجات الخاصة. ويرى ضرورة تأمين كوتا في موضوع التوظيف وغيرها من الاقتراحات المهمة كوجود داتا للمعلومات، وأن يكون هناك إحصائيات على مستوى الجمهوريّة اللبنانيّة، بل إستراتيجية وطنية كاملة.