تحقيق – الجزء الأول
تغيرت ملامح الحياة في المدن اللبنانية، فرغم جمالها، انتشر التلوث في كل مكان، وأصبحت الروائح العفنة تملأ الشوارع، وتُخيم على المنازل، وتحولت الشواطئ إلى مكبات للنفايات ومأوى للحشرات بعدما تدفقت المياه المبتذلة عبر مئات المصبات المنتشرة على طول الشاطئ، وحل التلوث، وانتشرت الأوبئة والأمراض، وزُهقت الأرواح، وسُلبت الأموال.
ومن بين أكثر من 70 محطة معالجة مياه مبتذلة في لبنان، تعاني معظمها التوقف التام، تأتي محطة صور التي توقفت بعد سنوات لتعكس خيبة أمل كبيرة، فبعدما كانت المدينة وضواحيها على وشك التصدي لمشكلة الصرف الصحي وتحسين حياة آلاف الأشخاص والحد من التلوث البيئي، تواجه الآن كارثة بيئية متفاقمة، ويسعى هذا التحقيق إلى كشف الحقائق بشأن حجم التمويلات التي خُصصت لقطاع الصرف الصحي على مدار سنوات طويلة، إلى جانب تسليط الضوء على الوضع الراهن لمدينة صور وضواحيها، والإجابة على عدة تساؤلات ُملحة حول هذا الوضع المأساوي.
تمويل هائل ووضع كارثي!
إحصائيات تمويل مشروعات الصرف الصحي
كشفت إحصائيات مبادرة غربال عن أن قيمة القروض والمنح التي خُصصت لمشروعات قطاع النفايات والتلوث والصرف الصحي منذ عام 1990 حتى 2024، بلغت أكثر من 2.205 مليار دولار، ويعد هذا القطاع ثالث قطاع حصل على أكبر قيمة من القروض بنسبة بلغت 14.1%، كما يوضح الشكل التالي:

المصدر: مبادرة غربال
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة اللبنانية حصلت على 1,089 قرض ومنحة بقيمة 9.8 مليار دولار من قبل 228 جهة، وذلك من عام 2001 لعام 2021 (20 عاما) سواء من جهات محلية أو أجنبية بناء على معلومات من 28 إدارة فقط من إدارات الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وفقا لما ورد في تقرير مبادرة غربال السنوي الخامس تحت عنوان “الشفافية في الإدارات العامة اللبنانية 2022″ حيث قدمت مبادرة غربال طلبات لـ 204 إدارات، 96 إدارة لم ترد على الطلب مقابل 108 إدارات ردت، من بينها 28 زودت المبادرة بالمعلومات المطلوبة كاملة و80 لم تُزَوِّدُهَا بكل المعلومات.
رغم إنفاق 1.3 مليار دولار في قطاع الصرف الصحي… توقف شبه كامل لمحطات معالجة المياه المبتذلة في لبنان
في حين أوضح تقرير صادر عن مجلس الإنماء والإعمار عن أنه وُقِّع 463 عقداً في قطاع الصرف الصحي بقيمة 1.392 مليار دولار لتنفيذ مشروعات في مختلف المناطق اللبنانية. ثم إنَّ القروض والمنح التي تم التصديق عليها والموافقة عليها من (1992 حتى 2024) في قطاع الصرف الصحي -بحسب بيانات مجلس الإنماء والإعمار- بلغت 1.298 مليار دولار، والاتحاد الأوروبي يعد أكبر جهة ممولة (454 مليون دولار)، كما يوضح الشكل التالي:

المصدر: مجلس الإنماء والإعمار
كما أشار تقرير آخر لمجلس الإنماء والإعمار إلى أن قيمة العقود قيد الإنجاز في قطاع الصرف الصحي بلغت أكثر من 657 مليار دولار، بنسبة إنجاز تجاوزت 74%.
ويظهر الجدول أدناه مشروعين لتجميع ومعالجة المياه المبتذلة في منطقة صور الساحلية، حيث بلغت قيمة الاول 358.719، والثاني بقيمة 24.134.305 في العامين 2021

جدول يظهر قيمة العقود لمشاريع الصرف الصحي في مدينة صور
وفي ضوء هذه الأرقام والإحصائيات تتزايد علامات الاستفهام حول كيفية وصول قطاع الصرف الصحي في لبنان لهذا الوضع الكارثي رغم التمويل الهائل الذي تلقاه من قروض ومنح، وتزداد حدة التساؤلات مع النظر إلى الوضع المزري لشاطئ قضاء صور على نحو خاص حيث بات هذا الشاطئ رمزًا لإخفاقات إدارة هذا القطاع.
الوضع الراهن لشاطىء صور
على شاطئ مدينة صور، يتجلى مشهد كارثي يعكس حجم الإهمال والفساد الذي يعم البلاد، فبعدما كان هذا الشاطئ من أجمل شواطىء لبنان، تحول إلى مصب للمجارير، حيث تفيض برك من المياه المبتذلة على الشاطئ، وبمجرد الاقتراب منه يمكن ملاحظة التلوث الذي يمتد لمسافة كبيرة على سطح المياه.
على شاطئ مدينة صور، يتجلى مشهد كارثي يعكس حجم الإهمال والفساد الذي يعم البلاد، فبعدما كان هذا الشاطئ من أجمل شواطىء لبنان، تحول إلى مصب للمجارير، حيث تفيض برك من المياه المبتذلة على الشاطئ، وبمجرد الاقتراب منه يمكن ملاحظة التلوث الذي يمتد لمسافة كبيرة على سطح المياه.

صورة من شاطئ صور حيث تصب المياه المبتذلة في مياه البحر
شهادات صادمة من مرتادي شاطئ صور تُؤكد كارثية الوضع
أعرب كثير من مرتادي شاطئ صور عن استيائهم الشديد من الوضع المزري الذي وصل إليه هذا الشاطئ. ففي تصريح لمنصة “صلة وصل” وصف أحد رواد الشاطئ الوضع بـ”كارثي” مطالبا بضرورة وضع حلول عاجلة لمعالجة هذه المأساة. كما قال شخص آخر: “أصبحت المياه ملوثة إلى حد بعيد جراء مياه المجارير، ولم نعد نأمن السباحة فيها، وحتى الجلوس أمام الشاطئ أصبح أمرًا صعبًا نظرًا للرائحة الكريهة للمياه”.

المياه المبذلة تصب في بحر صور
وفي تقرير المجلس الوطني للبحوث العلمية حول ” الواقع البيئي للشاطئ اللبناني 2024” الصادر في 4 تموز 2024 بخصوص المسحات البحرية لـ 37 موقعَا جغرافيًا على طول الشاطئ اللبناني من عكار وصولا إلى الناقورة، أشار إلى أن الشاطئ الشعبي في صور من بين 6 مواقع مصنفة حذرة إلى حرجة غير مأمونة ونسب التلوث البكتيري في مياهها تعد متوسطة، وتتعرض للتلوث بشمل متقطع أو ظرفي.
وقد أكدت الأمينة العامة للمجلس الوطني للبحوث العلمية دكتورة تمارا الزين في هذا التقرير ضرورة استمرارية تقييم الحالة البيئية للشاطئ لبنان وربطها بالعوامل التي تؤثر فيها مباشرة مثل محطات معالجة المياه المبتذلة”.