مهمتنا تبدأ وتمضي بكم/ ن

صديق أبي الأنتيم

اشترك في

النشرة البريدية الأسبوعية: 

تم الاشتراك في النشرة بنجاح تم حدوث خطأ غير متوقع

تبعنا علي

وسائل التواصل الاجتماعي

تم حفظ المقال في المفضلة
تم نسخ الرابط بنجاح!
الأربعاء 30 يوليو 20258:55 م

هدوء نسبي لا يشبه العاصفة التي تجتاحنا جميعًا، استيقظت صباح يوم السبت 26 تموز 2025 على خبر وداع زياد الرحباني، صديق أبي الأنتيم.
لم يسبق أن التقى أبي بزياد في حياته، لكنهما كانا أصدقاء يتشاركان النكات والألحان والحزن ذاته، وكانا يخوضان أحاديث طويلة عن الله والبلد وأحيانًا عن فيروز.


نقاشات كانت جزءًا أساسيًا من طفولتي ومن تشكل هويتي المتمردة، حيث دائمًا كان المجتمع يسلط الأصبع عليّ وينعتوني بـ”الثورجية”.
ربانا أبي على الاختلاف ليس كشرط للخلاف، بل لنقول عن الواقع كما هو بدون أن نجمله، ولنعيش الحياة بتناقضاتها الجميلة والقبيحة. ولنرد بكل سخرية على واقع مجتمعاتنا، وعلى “الجبلة اللبنانية” الخاصة، وعلى متلازمة حب الوطن وكرهه بنفس الوقت.


أبي عاش حياة مختلفة عن المجتمع الذي يعتبر أنه لا يشبهه، هذا المجتمع الذي كان لطالما باعتقاده مشحونًا بالحقد، والتمثيل، والمبالغة.
ربما من حسن الحظ أن أبي رحل قبل أن يرحل زياد بأشهر. أبي الذي لطالما عاش كئيبًا بسبب رحيل أصدقائه المقربين قبله. بالتأكيد لن يقوى على تحمل رحيل زياد الأقرب إلى قلبه، الصديق الذي لم يفارق صباحات أبي وصباحاتنا اليومية. 

كبرت بين جلسات أبي مع أصدقائه، التي كانت تجمعهم في مركز الحركة الثقافية في صور، كبرت بينهم على حوارات مختلفة عن المرأة، والسياسة، والموسيقى، والجدالات الواسعة التي معظمها كان مجبولًا بالسخرية والضحك العالي المستمر.
أشعر أنني فقدت اليوم ذكرياتي التي بدت يتيمة بغياب زياد ورحيله، فقدت جزءًا أساسيًا من فترة جوهرية حفرت شخصيتي وما أنا عليه الآن. فقدت صوت فيروز وأغاني زياد في صباحاتنا، وأبي.


أصبحت أغاني فيروز مقترنة بألم غياب اللحظات الجميلة التي جمعتنا سويًا، أنا وأبي وزياد. وأصبح الهروب منها وسيلتي للتنصل من كل هذا الماضي وكأن لا علاقة لي به.

وفي لحظات عابرة وعشوائية وفي فوضى عملي اليومي أتذكره يجلس على شرفة المنزل حيث كان يقضي معظم أوقاته، يتمم أغنيات فيروز ويذهب إلى عالم آخر، يلتقي مع أصدقائه ويرثيهم، يتخيل حياة أخرى، عالم الرحابنة ولبنان الحلم، الذي لم يستطع حتى زياد أن يمحوه من خيال أبي لأنه كان بالنسبة له وسيلته للهروب لحياة أفضل في ظل الفوضى أو الوجه الحقيقي لِلبنان كما وصفه زياد في مسرحياته وأعماله الفنية. 

عاش أبي هذا التناقض أيضًا، في خياله في قهوة على المفرق، انتظر فيها كثيرًا، لكن حاله كان كحال زياد عندما قال: “كل ما تسألني كيفك؟ بتذكر إني مش منيح” في برنامج “العقل زينة”.

ما أعرفه هو أن الأصدقاء الأنتيم يتوحدون، ويتفقون على الكثير من الأفكار وأحيانًا يختلفون ويعيشون صراعات إنسانية، يبتعدون عن بعضهم تارة، ثم يرجعون أقوى أكثر مما مضى

أبي الذي كان يردد دائمًا أنه ليس لديه أي مشكلة مع الموت “اللي بموت بيرتاح”، لا أدري إذا كان انطباعًا زرعه زياد فيه عندما تحدث عن الموت وقال: “كان عندي مشكلة مع الموت، كان، هلأ ما عاد في شي بالمرة، قدّام اللي مرقنا فيه، قرب على الموت كذا مرة”.

اختلف أبي مع زياد في السياسة في فترةٍ ما، لكن باب النقاش معه كان دائمًا مفتوحًا، وذلك لأنه لم يضع نفسه يومًا في مرتبة الإله، ولم يسمح لأحد أن يُؤلِّهه. لذا، كان الخلاف مع زياد لا يفسد للود قضية، ولا ينزله من مكانته الإبداعية التي دخلت القلوب والعقول. لأنه، قبل كل شيء، سواء اتفقتَ أم اختلفتَ معه، فقد أجبرنا في النهاية على وعي الواقع، غصبًا عنّا وعن إنكارنا له، وحرضنا على الغوص في صراعاتنا الوجودية والحياتية، وطرح الأسئلة العميقة، وتعرية كل الزيف الذي وضعه المجتمع في قوالب نسكنها.


لكن ما أعرفه هو أن الأصدقاء الأنتيم يتوحدون، ويتفقون على الكثير من الأفكار وأحيانًا يختلفون ويعيشون صراعات إنسانية، يبتعدون عن بعضهم تارة، ثم يرجعون أقوى أكثر مما مضى. 


هذه ليست دعوة تشائمية لتسطير الموت كحالة يأس في حياتنا، بل دعوة للتصالح معه كونه “غريزة” كما يقول زياد بأحدى المقابلات الصحفية ويستشهد بالعالم والطبيب النفسي سيغموند فرويد.


لكن الفراق يبقى هذه المساحة الفارغة والممتلئة بكل شيء في نفس الوقت، الغياب الذي عبر عنه حتى زياد عندما كتب: “شو بخاف حتى الخط ما يلاقيك، شو بحس إنو لازم يلقيك.. وترد وحاكيك، حبيبي”، هذا الخوف الذي يراودني منذ أن رحلت يا أبي، شو بخاف دق عليك وما لاقيك، ويا زياد، شو بحس إنو لازم يلاقيك، وترنم فيروز معي بصوتها: وترد وحاكيك، حبيبي.

Subscribe
Notify of
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة:

اشترك في نشرتنا الشهرية

تابعونا ليصلكم/ن كل جديد!

انضموا إلى قناتنا على الواتساب لنشارككم أبرز المقالات والتحقيقات بالإضافة الى فرص تدريبية معمقة في عالم الصحافة والإعلام.

هل تريد تجربة أفضل؟

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة التصفح وتحليل حركة المرور وتقديم محتوى مخصص. يمكنك إدارة تفضيلاتك في أي وقت.

ملفات تعريف الارتباط الضرورية

ضرورية لعمل الموقع بشكل صحيح. لا يمكن تعطيلها.

ملفات تعريف الارتباط للتتبع

تُستخدم لمساعدتنا في تحسين تجربتك من خلال التحليلات والمحتوى المخصص.

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x