مهمتنا تبدأ وتمضي بكم/ ن

دردشات حزينة في النقل العام

اشترك في

النشرة البريدية الأسبوعية: 

تم الاشتراك في النشرة بنجاح تم حدوث خطأ غير متوقع

تبعنا علي

وسائل التواصل الاجتماعي

تم حفظ المقال في المفضلة
تم نسخ الرابط بنجاح!
الثلاثاء 29 أبريل 20258:49 م

“بخاف عيل من العيال يتعب وقتها مش عارف هيبقى ايه الحل والله”، الخوف من المرض هو أمر طبيعي، ولكن لأن الجملة هنا منزوعة السياق فدعني أوضح لك أن الخوف ليس من المرض قدر كونه خوف من تكاليف المرض، وهذا ليس اقتباس من بؤساء هوغو، أو معذبون طه حسين في الأرض، هذا حديث تقليدي يدور في النقل العام في صباح يوم ثلاثاء دون وجود أي أحداث جلية تذكر إلا أن الناس لم تعد تقدر على المعيشة.

في ظل غياب صحافة وطنية حقيقية تعبر عن لسان حال الشعب، لا يوجد طريقة أخرى لسماع صوته إلا من خلاله هو، وهذا ما سنفعله الآن بالضبط، سننصت، وإن كنت لن تصدقني فجرب أن تخلع سماعات أذنك وتستمع لما يدور حولك، في الشارع أو في العمل أو في الجامعة أو حتّى في المدرسة، فحالة الضيق عامة وأصابت طوائف الشعب كافة.

في ظل غياب صحافة وطنية حقيقية تعبر عن لسان حال الشعب، لا يوجد طريقة أخرى لسماع صوته إلا من خلاله هو

ولكني اخترت اليوم أن أنصت لما يدور في النقل العام، وبالأخص الأتوبيس، رحلته الطويلة تساعد في كسر الجليد وفتح الأحاديث، الفارق الوحيد الآن أن المكان الذي اعتاد أن يستمع إلى طرائف المواقف، وتبادل الأحاديث الكروية، وربما بعض المناوشات الدينية، ولا بأس أيضًا في القليل من النميمة وبعض المزاح الذي لا يخدش حياء الأسر المصرية، اليوم إما يعمه صمت مهموم أو دردشات حزينة.

الحسبنة هي أكثر ما يُسمع الآن في الأتوبيس، فمع سماع كل راكب سعر التذكرة الجديد، والتي زادت بين ليلة وضحاها ثلاثة جنيهات، تصيب الدهماء وجهه، وينقلب حاله، ترتسم على وجهه ملامح العجز للحظات، ثم ينظر إلى الفلوس متحسرًا، يودعها وهو يعلم أنه لن يعود إليه أي باقٍ منها، وربما سيحتاج أن يزيد عليها، لينتهي به الأمر بدفع ثمن التذكرة ويغوص في بحر من الحسابات، فتلك الزيادة ستتكرر مرة أخرى في رحلة الإياب، وستتكرر يوميًا معه ومع كل فرد من أفراد الأسرة، زيادة تعادل تقريبا السبعمائة جنيه مع راتب ثابت لم يزد جنيه واحد، لينتهي هذا الحديث مع النفس بحسبنة أخرى.

وفي أحاديث أخرى لا تدور مع النفس، ولكنها أعلى صوتًا بين طرفين يمكن وصفهما بالشجاعة لجسارتهما بالشكوى في مكان عام، لأنه حتى الشكوى أصبحت محل للريبة والتحسّس، يمكن لشكوتك أن تزج بك في سجون المعارضة.

تسمع هذا الموظف وهو يتحدث في انتصار وهمي ممزوج بعجز فيقول: “يعني كل يوم بتمشى لأول الشارع ونفس الكلام في الراجع، مش مستاهلة الستة جنيه اللي هيدفعوا فيهم، الحوار كله بس يلزمه نص ساعة بدري الصبح، وآخر اليوم الواحد بيبقى مهدود بس أهوه ادينا بنقعد نسبح ونستغفر طول الطريق ومنحسش بيه، تبص تلاقي كل ده على أخر الشهر وفرلك بتاع ميتين جنيه، يشيلوا تمن حصتين دروس، كيلو بانيه، حاجة من هنا على من هنا بتفرق برده.”

حتى الشكوى أصبحت محل للريبة والتحسّس، يمكن لشكوتك أن تزج بك في سجون المعارضة

وينتهي الحديث بزميله داعيًا له بالصبر والتّحمل، وفي نفسه يحمد الله أن الأتوبيس يمر من تحت بيته مباشرة، فلا يتكلف الست جنيهات أو ساعة من يومه.

وفي حديث آخر لا يوجد فيه انتصار وهمي بل هو عجز تام، تسمعه يشكو لزميله كيف أنه دفع بابنه على استحياء إلى العمل ولكن مصاريف جامعته قد أرهقته ولم يعد يقوى عليها، فتسمعه يقول في صوت تعلم من خلاله جيدًا أن الدمع محبوس:” أخوه الكبير ياما اتحايل عليا ينزل يشتغل مع ناس صحابه وأنا كنت حالف عليه ما في شغل غير لما يخلص جامعة، عشان ملاقيش عيل فيهم يجي في يوم يقولي أنا قصرت”، ثم يصمت لبرهةٍ متذكرًا الأربعون سنة التي عاشها كأب راضٍ عن نفسه، ولكنه لم يتوقع يومًا أن يتحطم في الجولة الأخيرة.

وأكثر ما يقلقه أن يضطر يومًا أن يدفع بابنته كما فعل مع أخيها، فبعد كسرته الأخيرة ولأول مرة بعد عمر طويل لم يعد يرى في تلك الحياة أمان، ويحمد الله أن ما بقي له فيها أقل بكثير مما مضى.

وقد تجد مناوشة طريفة في إحدى مقاعد الأتوبيس على “كانزاية” فارغة تظن منها أن الروح المعنوية لم تتدمر تمامًا ولكن ما أن تعلم سببها تزداد همًا وحزنًا على حال هذا الشعب، الأمر كله بدأ حين طلبت من زميلتها الكانزاية التي كانت انتهت من شربها للتو، لتخبرها أنها تعمل الآن في جمع الكانزات الفارغة، وتبيع الكيلوجرام على قرابة الخمسين جنيه لأحد تجار الخردة، رغم أن سعرها الأصلي الضعف تقريبًا ولكن للأسف لا صلة لها بالتجار الكبار مباشرة، فلا خيار أمامها إلا هذا الوسيط.

كان في عين زميلتها نظرة فخر وانبهار بتلك المرأة المدبرة التي تعلم الحيل والأساليب لتدبير الأموال، ولكن لم تمر لحظات حتى انقلبت تلك النظرة إلى حزن وحسرة و بعض من الشفقة، حين بدأت تسرد كيف تجمع تلك الفوارغ.

لم يعد النقل العام مجرد وسيلة انتقال، بل صار وسيلة تنفيس. صار يُشبه البوح، بوح الفقراء الذين لم يجدوا من يسمعهم سوى بعضهم

ربما تحتفظ بواحدة شربتها لتوها، ولكن في الأغلب تضطر إلى تجميع الفوارغ من أي مكان يقابلها، كانزاية ملقاة في مكتب العمل، أو تحت قدميها في المواصلات، ربما يحتاج الموضوع إلى مجهود أكثر فتسرع بأخذ واحدة فارغة من إحدى زميلاتها بحجة أن تلقيها لها في القمامة، وأحيانا تدفع بابنها على استحياء أن يجمع واحدة ملقاة على الرصيف فإنها لا تقدر على الانحناء، وإن كان الغلاء أجبرها على الانحناء بطرق أخرى. فتلك المناوشة التي لمحناها في البداية كانت صراع على الكرامة لا على المعدن.

تلك الدردشات التي تُقال بنبرة تقبل ورضا بالحال لأن الكل يعلم أن ما هم فيه قدر لا فكاك منه، والمشترك بين كل تلك الدردشات أن الكل لم يعد يطلب الكثير، فقط ألا تزيد الحياة قسوة.

وفي كل رحلة، الحافلة تمضي، والأحاديث تفيض، ومع كل توقف، تزداد القلوب ثقلًا. لم يعد النقل العام مجرد وسيلة انتقال، بل صار وسيلة تنفيس. صار يُشبه البوح، بوح الفقراء الذين لم يجدوا من يسمعهم سوى بعضهم وهذا وحده كافٍ ليجعلنا ننصت.

Subscribe
Notify of
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة:

اشترك في نشرتنا الشهرية

تابعونا ليصلكم/ن كل جديد!

انضموا إلى قناتنا على الواتساب لنشارككم أبرز المقالات والتحقيقات بالإضافة الى فرص تدريبية معمقة في عالم الصحافة والإعلام.

هل تريد تجربة أفضل؟

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة التصفح وتحليل حركة المرور وتقديم محتوى مخصص. يمكنك إدارة تفضيلاتك في أي وقت.

ملفات تعريف الارتباط الضرورية

ضرورية لعمل الموقع بشكل صحيح. لا يمكن تعطيلها.

ملفات تعريف الارتباط للتتبع

تُستخدم لمساعدتنا في تحسين تجربتك من خلال التحليلات والمحتوى المخصص.

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x