علاقة شديدة الخصوصية والشمولية مع زياد الرحباني

تم حفظ المقال في المفضلة
تم نسخ الرابط بنجاح!
الأحد 27 يوليو 202511:37 م

حين أتخيل زياد الرحباني بعيدًا عن حياته الفنية المثمرة، وبعيدًا عن كونه من واحدة من أكبر العائلات الفنية عربيًا، أراه ذلك الرجل العجوز المقيم في الحارة، لا يغادرها ولا يسلم مارّ من لسانه. لا تمر امرأة أمامه إلا ويتغزّل بها، ولا يوجد طفل إلا ويتهرب منه بحجج غريبة. صوته أعلى من ضوضاء المكان، بل هو نفسه ضوضاء المكان. ومع ذلك، لا ينزعج أحد، لا تكرهه الأطفال، ولا تعتبر النساء غزله تحرشًا. يحبه الجميع، صغيرهم وكبيرهم، ويحترمونه رغم كل شيء. لا يخشى أن ينفجر غضبًا في وجه الظلم، ولا يجرؤ أحد، مهما بلغ شأنه، أن يتجاهل حكمه. حين يموت، لن تعود الحارة كما كانت. وهكذا كان الفنان زياد الرحباني في الواقع: حين مات، لن يعود العالم كما كان.

ورث زياد اسمه من عائلة فنية عظيمة، يكفي أن نذكر “فيروز” لنفهم حجم التحدي. ومع ذلك، لم يذُب صوته في ظلال هذه العائلة، بل فرض حضوره الخاص بسلاسة وإخلاص. لم يكن امتدادًا، بل ركيزة مستقلة أثّرت في الجميع، حتى في مسيرة والدته نفسها. أعمال كثيرة غنتها فيروز، بينما هي في الحقيقة زيادية الروح والمضمون. «كيفك إنت»، على سبيل المثال، أغنية لا تخطئها بصمته، هي منه أكثر مما هي منها.

أعمال كثيرة غنتها فيروز،

بينما هي في الحقيقة زيادية الروح والمضمون

وعندما نغني «البوسطة»، لا نغني فقط لحنًا مبهجًا أو قصة طريفة عن فتاة تُدعى عليا، بل نغني لنسائنا جميعًا. لم يحدث أن غنّيتها لحبيبتي وفكرت بعليا الواقعية. اسمها لم يزعجنا يومًا، لأن الأغنية ملكُنا نحن، نعيد كتابتها كل مرة بحسب من نحب. تمامًا مثل «بلا ولا شي»، والتي إن لم تشاركها مع من تحب، فربما عليك أن تعيد النظر في العلاقة. هذا هو سحر زياد: يجعل من الخاص جدًا شيئًا عامًا، ومن العام شيئًا حميميًا.

ورغم حدة شخصيته الظاهرة، وضيق خلقه الدائم، كما قال عن نفسه: “خلقي ضايق، خلقو مني” إلا أن ضيقه لم يكن ضد الناس أو الأمل في الحياة، بل ضد الظلم. كان غاضبًا لأن العالم ليس كما يجب أن يكون. لم يكن ناقدًا سلبيًا، بل فنانًا يرى أكثر مما نرى. هذا الغضب المتوهج جعل حضوره لا يُنسى، وجعل رحيله ناقوسًا صاخبًا دقّ في صفحات الناس ومنشوراتهم على وسائل التواصل الإجتماعي. في لحظة وداعه، توحد الجميع في فقده، لأنه كان أكثر من فنان؛ كان صوتًا لنا جميعًا.

علاقتي الشخصية مع زياد بدأت متأخرة، حين صادفت جملة منه صدح بها في تسجيل: “كل مرة بتسألني فيها كيفك، بتذكر إني مش منيح”. كانت هذه العبارة مدخلي إلى برنامجه الإذاعي «العقل زينة». لم أكن قد شاهدته في بثه الأصلي، ربما لصغر سني. لكني وجدت فيه ملاذًا، جلسات طويلة من الإصغاء، كلمات تثير الدهشة، أسئلة لا تنتهي، وأحيانًا، اعترافًا: “لا أفهم كل شيء، بسبب اللهجة اللبنانية”، لكن الشعور؟ حاضر دومًا.

وصديقتي “فالنتين نسر” تشارك هذه الحالة، إذ تقول: “لم أكن أفهم شيئًا مما كان يقوله زياد بداية، كنت صغيرة جدًا. لكن زياد كان دومًا موجودًا في البيت. والدي كان مولعًا به، وبفيروز. ورثت منه روحه المتمردة، خصوصًا عبر (العقل زينة) ومسرحيات مثل (فيلم أميركي طويل) و(بالنسبة لبكرا شو؟). زياد يملك قدرة غريبة على قراءة المستقبل وتحليل تعقيدات الواقع اللبناني بخفة وعمق، وهذا برأيي عبقري”.

زياد يملك قدرة غريبة على قراءة المستقبل وتحليل تعقيدات الواقع اللبناني بخفة وعمق وهذا عبقري

في كل ما فعله، كشف زياد عنا نحن أنفسنا وعنا صراعاتنا الداخلية. بيّن لنا أن الفن ليس رفاهية، بل مقاومة. أن النكتة يمكن أن تكون سلاحًا، وأن الحب يمكن أن يكون موقفًا سياسيًا. ترك إرثًا ليس في الألحان فقط، بل في الفكرة. والصوت. والطريقة التي نرى بها العالم.

لهذا، أختتم مقالي بجملته التي لا تتوقف عن مطاردتي:
“والله أنت بينك وبين التفاهم في سوء تفاهم”.

Subscribe
Notify of
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

مقالات ذات صلة:

اشترك في نشرتنا الشهرية

تابعونا ليصلكم/ن كل جديد!

انضموا إلى قناتنا على الواتساب لنشارككم أبرز المقالات والتحقيقات بالإضافة الى فرص تدريبية معمقة في عالم الصحافة والإعلام.

هل تريد تجربة أفضل؟

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة التصفح وتحليل حركة المرور وتقديم محتوى مخصص. يمكنك إدارة تفضيلاتك في أي وقت.

ملفات تعريف الارتباط الضرورية

ضرورية لعمل الموقع بشكل صحيح. لا يمكن تعطيلها.

ملفات تعريف الارتباط للتتبع

تُستخدم لمساعدتنا في تحسين تجربتك من خلال التحليلات والمحتوى المخصص.

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x